يحمل كل نظام ثقافي سلطة اجتماعية، تزيد أو تنقص قوتها لدى الفرد داخل المجتمع وفق اعتبارت معينة تخص الشخص تتمثل في: ثقافته الخاصة، ونمط شخصيته، ومستواه التعليمي، ومصالحه الشخصية. والواقع أن هذه السلطة الثقافية العليا هي التي تصوغ كثيرًا من تصرّفات الناس لما تتّسم به من صرامة وعنف تصبح، في بعض الحالات، سكينًا تمزّق وبلاهوادة أحلام الكثيرين وتطلعاتهم حينما لاتتماشى مع السائد المتعارف عليه والمقبول ثقافيًا. وبالوقوف عند التطلعات الفردية التي يتصارع فيها المرء مع المجتمع، نجد أن بعضها منطقي للغاية، وبعضها الآخر مطلوب على المستوى الفردي والشعبي كونها تجلب الكثير من المصالح. ورغم ذلك، يأتي التخوّف منها لا لذاتها، وإنما لأنها تحمل معها الاختلاف الذي يعني النبذ من المجموعة المتشابهة؛ فالتشابه يمثل حماية اجتماعية لمختلف الناس بحيث يظهر الجميع على أنهم يمثّلون نموذجًا موحّدًا تختبئ تحته الأشكال المتعددة ذات النمط السلبي. فنجد مثلا أنماطًا من الشخصيات الضعيفة والمزيفة وقليلة الثقة والجبانة والمعتلة نفسيًا والكسولة وغيرها، تظهر وكأنها مقبولة وعادية للغاية لأنها تأخذ أشكالا ثقافية مألوفة على اعتبار أن تلك الشخصيات تُمثل تكرارًا معتادًا لايؤثر في الآخرين. في حين تظهر الشخصيات ذات التأثير المهم على أنها مختلفة؛ فيظهر مثلا المبدع وصاحب الرؤية المختلفة في أمور الحياة وكأنّه يُعاني من مشكلة تحتاج إلى حلّ لأنه لايتماشى مع التيار المتشابه الذي يُعاير الأمور وفق مقياسه الذي صار - في نظره- مقياس الطبيعية! وقد أتيحت لي الفرصة للحديث مع عدد من العلماء والمفكرين العرب المهاجرين ممن يعيشون ويعملون في أمريكا، وكانوا مشدودين إلى أوطانهم بحنين جارف ولديهم لهفة كبيرة وأمنيات صادقة في أن يروا شعوبهم على أفضل صورة؛ ولكنهم يتألمون دائمًا للنظام الاجتماعي السائد الذي يقمع الفكر ويسحق التميز من أجل تحقيق النموذج المتشابه. ويبدو أن هذا هو سر هجرة العقول العربية المبدعة إلى الغرب؛ فهذه العقول تحتاج إلى مساحة من الحرية الفكرية لكي تُنجز بإبداع. وهذه الحرية عندنا تمثل -في الغالب- تهديدًا للنظام الاجتماعي السائد، لأن الشخص المختلف يحتاج إلى أمور مختلفة عن غيره كونه يفكر بشكل مختلف. وهذا بطبيعة الحال يتطلب نمط حياة هو الآخر مختلف؛ والحقيقة أن هذه أمور مزعجة لأي فئة ترى في الرتابة والروتين أساليب ضرورية في الحياة. وعند النظر، على سبيل المثال، لطبيعة نظام العمل والعمال المتبع لدينا، ومايرتبط به من أداء الموظفين وتعاملهم؛ نجد أن بيئة العمل غير مشجعة على الإبداع، ولاحتى على الإنجاز. فبعض الموظفين يختار أن يبدأ عمله فعليًا بعد الساعة التاسعة والنصف بعد أن يمرّ على عدد من صحف اليوم للتسلي أكثر من كونه للقراءة والاطلاع، يفعل ذلك وهو يرتشف كوبًا من الشاي أو القهوة أو العصير وفق مزاجه ومستوى خموله ذلك اليوم. وبعد هذا العمل الشاق للغاية تجده يبدأ العمل قبل صلاة الظهر بما يقارب النصف ساعة، ثم يكمل بعدها بنصف ساعة أخرى أو ساعة؛ وبعد ذلك يختار البعض أن يكمل طريقه للبيت. ومن لديه ضمير يرجع مرة أخرى لعمله لكي يكمل ساعة أخرى بكل ملل. وإن طلب المدير أو المسؤول من الموظفين إنجاز عمل ما في مدة زمنية محددة يظهر الإبداع في خلق الأعذار للتأخير، وكأن العقل لايبدع إلا لخلق فرصة أخرى للكسل العقلي والجسدي. وإذا لوحظ أن الدوام الرسمي لدينا يُعادل تقريبًا نصف الساعات لدى غيرنا، ومع هذا يخرج غالبية الموظفين متذمرين ومرهقين. وحينما نقارن الوضع بمانراه في الخارج، نجد أن الموظفين يخرجون بعد الساعة الخامسة عصرًا والبعض الآخر قد يخرج من العمل الساعة الثامنة مساء، ومع هذا لانرى لديهم مانراه هنا من الخمول والتقاعس والرتابة! وإذا علمنا أن الواحد منّا حينما يذهب إلى الغرب فإنه يعمل بجدّ ومهارة ويتميز بسرعة، وفي الوقت نفسه فإن من يأتي إلينا من المتميزين يتحوّل تدريجيًا إلى الكسل والخمول ويصاب بالإحباط والثبور. فلنا أن نتساءل: أين تكمن المشكلة؟