وإنِّي لو تعاندني شمالي عنادك ما وصلتُ بها يميني (المثقب العبدي) من أصول الحب الموافقة والمطاوعة، وأغنية طلال تقول (أنا الحبيب المطاوع..!).. أما العناد فهو أصل البغضاء والشقاق، يوغر القلوب على القلوب، ويوتر الأعصاب، ويقصم عرى القرابة، ويمزق أواصر الصداقة، وكثيراً ما ينتهي العناد بالزواج إلى الطلاق.. والسبب في أن العناد يأتي بكل هذه الكوارث.. وأكثر.. هو أن العناد أكثر موقف وقتي، فهو موقف نفسي، وهو ليس رأياً بل مخالفة لوجه المخالفة وبقصدها، فالمعاند يريد أن يغيظ الطرف الآخر ويثير أعصابه ويعبر له عن كراهيته له، فإذا كانت الموافقة هي أم الحب، فإن المعاندة هي أم البغض.. والعناد يدل على الحماقة، أو محاولة جذب الانتباه والحصول على الاهتمام، وهنا يدل على مركب نقص، فالعناد ليس إبداء رأي مخالف بقول.. ودليل.. بل رفض رأي الآخر لمجرد الرفض وإن بحث المعاند عن دليل جاء بسخافة أو سفسطة، وقد تبلغ حماقة المعاند الافتخار بها وأن له موقفاً مخالفاً، وهو بهذا يصبح قليل عقل ثقيل دم، وإذا حصل وعاند قوياً لا يطيق العناد سحقه، قال الشاعر: «أرى العنقاءَ تكبر أن تُصادا فعانِدْ من تُطِيق له عنادا» والشاعر لا يدعو إلى المعاندة المطلقة ولكنه يتكلم عن العداوة فينصح الإنسان أن يعاند العدو الذي يستطيع معاندته، أما الذي أقوى منه بكثير فمن باب التهلكة عناده». وحين يدخل العناد بين الأصدقاء يفسد الصداقة وقد يحيلها إلى عداوة.. فالصداقة تقارب وتفاهم ومحبة وحرص على راحة الصديق والعناد ضد كل تلك الصفات الجميلة فهو صفاقة ومخالفة وقلق وإعلان بغض مبطن أو حسد مغطى.. قال المثقب العبدي: فإما أن تكون أخي بحقٍ فأعرف منك غثَّي من سميني وإلاّ فاطّرحني واتخَّذني عدواً أتقيكَ وتتقيني وإنِّي لو تعاندني شمالي عنادك ما وصلتُ بها يميني إذن لقطعتُها ولقلتّ: بيني كذلك أجتوي من يجتويني» أي أبغض من يبغضني وهو الذي يعاندني.. فالصديق الحق يوافق صديقه كما قال شاعرنا ناصر بن فايز: «أمشي علي دربٍ رفيقي مشى به عندي لمثله يلزمن المواجيب» والعناد عصيان، ضد الطاعة، قال راشد الخلاوي: «ومن حب شي لازم بيطعيه وينقاد له قود النصاة المداريه خليل على الشرات ما يستعز لي أعدى عداتي باسطٍ لي مخالبه» والزواج الناجح يقوم على التضحيات المتبادلة والاحترام والتفاهم والاتفاق.. خصلة واحدة دميمة تنفي كل تلك الخصال الكريمة وتمحوها من الوجود كما يمحو الظلام النور، ألا وهي خصلة (العناد) فهو ضد الاحترام والتفاهم والتضحيات المتبادلة والاتفاق.. المعاند لا يحترم الطرف الآخر.. فالعناد ليس رأياً.. والمعاند لا يحاور بالعقل ولكنه يستقصد إغاظة الطرف الآخر لتبني موقف يخالف موقفه، وتسفيه رأيه ولو كان سليماً، وتكذيب معلومته ولو كانت صادقة، مع الإصرار على ذلك مهما حاول الطرف الآخر حشد الأدلة واللجوء إلى الإقناع بالتي هي أحسن.. المعاند.. أو المعاندة.. هدفه الأساسي العناد أصلاً.. ولهذا فحين يدخل العناد بين الزوجين ينسف الاحترام المتبادل والتفاهم والاتفاق ويحيل حياة الزوجية إلى جحيم.. قال الشاعر في زوجة له طلقها لأنها لا تتفق معه أبداً بل تعانده: «رحلت أنيسةُ بالطلاق وعتقتُ من رقِّ الوثاقِ بانت فلم يألم لها قلبي ولم تَبْكِ المآقي ودواء ما لا تشتهيه النفس تجيلُ الفراق لو لم أرح بفراقها لأرحت نفسي بالإباق والعيشُ لن يطيب بين اثنين في غير اتفاق» فالعناد ينكد على الزوج ويجعل عيشته سوداء ويعكر مزاجه دائماً ويوتر أعصابه باستمرار، العناد المتكرر من الزوجة أو الزوج يجعل الراحة معدومة في البيت، والحياة جحيماً لا يطاق.. ويصف ابن المعتز عناد زوجته له بأنه يشبه حصاة دخلت بين إصبعي قدمه وسببت له الألم الشديد والتنغيص المستمر واستعصت على الخروج إلا بالطلاق: «ونقبت عرسي بالطلاق مصححاً وكانت حصاة بين رجلي وأخمصي فأبهت غدالي وفات الذي مضى وهنيت عيشاً بعد عيش منغص» وما لم يتعسف الزوج في استخدام حقه فإن مخالفة الزوجة لأمره نوع من العناد العملي، فإذا نهاها عن أمرٍ لا يرضاه وأصرت على ارتكابه فهذا العناد بعينه، وإن طلب منها ألا تلبس ذلك اللباس لأنه لا يعجبه فأصرت على لبسه فهي تعانده وتقف ضده (تعصيه) وقد قالت الأعرابية توصي ابنتها ليلة زفافها «كوني له أمة يكن لك عبداً، ولا تفشي له سراً ولا تعصي له أمراً، فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره..» وقال أعرابي لزوجته: «خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب» فقوله: «خذي العفو مني» أي اتركيني على سجيتي كالماء يجري جذلان بلا عوائق، والعناد أكبر عائق، أما معاند الغاضب فتشبه وضع البانزين على النار. إن العناد بين الزوجين يطرد المودة والرحمة، ويجعل الرجل لا يطيق مجالسة زوجته المعاندة أو محادثتها، وكذلك المرأة التي يعاندها زوجها تثور أعصابها ثم تستثقل دمه ومحضره وحديثه فلا تحرص على الجلوس عنده أو الحديث معه، وفي كل الأحوال ينتهي العناد الدائم بالزوجين إمّا للطلاق العاطفي فيعيشان في البيت كجثتين بلا روح، أو بالطلاق الصريح.