جاءت مواقف بعض المثقفين والإعلاميين معبرة عن طبيعة جهلهم بالحقائق ووقائع الأحداث، والبعض الآخر اتخذوا مواقف نابعة - من قناعات تطرفهم وتعصبهم المذهبي الأعمى - وتعاطوا مع الأحداث والوقائع من منظور سطحي وسوء في الفهم والتشبث بالشكل على حساب المضمون، متأثرين في ذلك بتيار ثقافي سياسي ديني منكفئ على ذاته ضمن إطار ضيق في الحوار والجدل الثقافي العقيم والصاخب في قضايا ثانوية خلافية بين الجماعات والمذاهب الدينية المتصارعة فيما بينها حول الشكليات والقشور البعيدة عن جوهر الدين وأصوله، وهذا القطاع من المتثقفين ظل مغيباً بشكل كلي عن القضايا المصيرية لهذه الأمة وتحدياتها المعاصرة والمستقبلية. فبعض المثقفين والإعلاميين كانت انتاجاتهم نابعة من قناعات ومواقف عدائية مزمنة لأوطانهم وللأنظمة العربية.. ومعبرة عن مشاعر اليأس والإحباط الذاتية، وحاولوا التعبير عن مكنوناتهم وقناعاتهم ومواقفهم من الأنظمة السياسية في بلدانهم من خلال الإساءة المتعمدة وغير المبررة أحياناً لأوطانهم وأحيان أخرى لنظام ما في بلد آخر ديمقراطي، ربما لشعورهم بأن ذلك يبقيهم بعيداً عن المساءلة والملاحقة، وهذا الشكل من القناعات المسبقة وثقافة اليأس والهزيمة تدفع صاحبها إلى الانحياز الأعمى بقوة ووضوح إلى قوى الإرهاب والتطرف ودعمها وتبرير جرائمها، ليس حباً فيها ولكن كراهية للآخر الذي يتطلع إلى التخلص منه بأية وسيلة وبأي ثمن وعلى يد أي طرف إرهابي داخلي أو استعماري خارجي. ويتفق مع هؤلاء شريحة أخرى من المثقفين والإعلاميين التي تكون مواقفهم محكومة بانتماءات عقائدية مذهبية موغلة في تطرفها وغلوها وتعصبها، وتجعل من صاحبها طرفاً في الترويج لصراعات مذهبية ترفض الآخر وتتربص به كعدو متجاوزة في ذلك طبيعة وخصوصية الإشكاليات والأحداث المعتملة وإخراجها من سياقها الجنائي نحو مسارات مجهولة. والبعض من الإعلاميين والمثقفين ظلوا يستقون معلوماتهم عن الواقع ويبنون أحكامهم واستنتاجاتهم على أساس التقارير الإعلامية الأجنبية ويتعاطون معها باعتبارها مصادر لحقائق مطلقة مجردة من أية أهداف أو أية وظيفة سياسية، وكذلك يعتمدون على تقارير منظمات وهيئات أجنبية وثيقة الصلة والرعاية والتموين والتوجيه بمؤسسات استخباراتية أجنبية سخرت ووظفت مثل هذه الهيئات والمؤسسات المدنية بمسمياتها المختلفة بشكل علمي لخدمة أجندة سياسية وفق رؤية بعيدة لتنفيذ مشاريع التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى.. وفي بعض الحالات يتم الاعتماد على تقارير الهيئات والمنظمات الدولية المعترف بها ولكن في إطار الحرص الكبير على الأخذ بكل ما هو سلبي في هذه التقارير وتضخيمها، ولهذا جاءت كتاباتهم وتحليلاتهم موجهة بشكل واعٍ أو غير واعٍ في خدمة الأجندة الخاصة لهذه المنظمات وتعكس صورة غير حقيقية للواقع الوطني تتسم بالتشاؤم والسوداوية. إن الاعتماد دون وعي ودراسة وتحليل علمي ودقيق لمثل هكذا مصادر معلوماتية تفتقر إلى الكثير من المصداقية، ومبنية على جهل كامل بخصوصية الواقع اليمني وتاريخه وعلاقاته وموروثه الاجتماعي والسياسي والثقافي وطبيعة إشكالاته، إنما يعكس مشاعر عدم الثقة بالنفس والإحساس بالدونية ويعبر عن حالة الهزيمة الثقافية المتأصلة في نفوس هؤلاء أمام الآخر الأجنبي الذين يرون فيه مصدراً للحقائق منزهاً من كل أطماع وأهداف أنانية ويرون فيه ملاكاً يسخر جهده وذاته لخدمة هذه الأمة ومعالجة اشكالاتها (لا لشيء سوى ابتغاء رضاء الله). لقد برز خلال هذه المرحلة حشد كبير من الإعلاميين والمثقفين والسياسيين والمحللين العرب الذين كتبوا عن القضايا اليمنية وكل واحد فيهم يدعي درايته بخفايا الأمور وطبيعة الإشكالات اليمنية وامتلاك الحقيقة والمصداقية وشمولية وعمق التحليل والرؤية، وهذا الحشد من الإعلاميين يحمل في داخله الكثير من التناقضات والتباينات الحادة وإن كانت تبدو للمتابع أنها نابعة من طبيعة القناعات والميولات الفكرية والشخصية في الانحياز لهذا الطرف أو ذاك؛ ولكنها في حقيقة الأمر تعبر عن سطحية الرؤية وقلة الإلمام، كما تعبر عن حقيقة الهزيمة الثقافية التي مثلت أحد مظاهر حالة التراجع الذي تعيشه الأمة في مسيرتها التنموية وجمودها الفكري والعقائدي،.. فالهزيمة الثقافية هذه تجلت في تخلي هؤلاء المثقفين والإعلاميين والسياسيين عن دورهم في الدفاع عن قضايا الأمة المصيرية وبالذات ما يتعلق بأمنها ووحدتها العقائدية والجغرافية والاجتماعية ومناعتها أمام الغزو والتدخلات الخارجية، وتحولهم إلى بوق وأداة لتبرير وتمجيد الإرهاب والعنف والتمردات المسلحة والحركات الانفصالية التي تظهر في هذا القطر أو ذاك على أسس عصبوية ضيقة. إن أداء هؤلاء الإعلاميين في اعتقادي يمثل امتداداً للاخفاقات المتكررة التي تعاني منها الأمة ويمثل في الوقت ذاته إسهاماً مباشراً في زيادة تغييب العقل وإشاعة ثقافة الهزيمة والإحباط في أوساط الرأي العام في مقابل الترويج لأساطير وثقافة عصور التخلف والانحطاط وصناعة المزيد من عوامل الفشل والإحباط والتعصب المولدة للمزيد من الضغائن والعداوات والأحقاد. في التصدي لهذا الحشد المتراجع، الموغل في تبعيته للآخر وتشاؤمه ويأسه وعدم ثقته بالمستقبل وبإمكانات الشعوب وقدرتها على النهوض، برز تيار آخر من المثقفين والإعلاميين والسياسيين العرب المتفائلين، والمتمسكين بمواقفهم في الدفاع عن مصالح هذه الأمة ووحدتها ويمهدون بفكرهم ورؤاهم الناضجة دروب تطورها نحو المستقبل، هؤلاء ينتمون إلى مختلف الأقطار العربية وتياراتها الفكرية والسياسية وأجيالها المختلفة، وفي تعاطيهم مع الأحداث والشأن اليمني حرصوا على تقديم خطاب سياسي إعلامي ثقافي جديد ومتميز حاولوا من خلاله الإجابة على تساؤلات جوهرية حقيقية تواجه الواقع اليمني.. رصدوا وحللوا الظواهر المختلفة ضمن إطارها المكاني بأبعادها وترابطاتها الوطنية والإقليمية والدولية وضمن إطارها الزماني بأبعادها وجذورها الماضوية ومحفزاتها المعاصرة واحتمالاتها وآثارها المستقبلية، وقدموا قراءة موضوعية عقلانية للأحداث المعتملة على الساحة اليمنية بكل تداخلاتها الإقليمية والدولية ضمن سياق متكامل ومترابط لمصادرها وأشكالها ومظاهرها المختلفة (التمرد الحوثي، الإرهاب القاعدي، الجماعات الانفصالية) وعلاقاتها بإشكالات الواقع التنموي الاقتصادية والاجتماعية. بغض النظر عن حالات التوافق والاختلافات مع ما قدمه هؤلاء من قناعات واستخلاصات ورؤى مستقبلية لتجاوز هذه الإشكالات والتعقيدات بغض النظر عن ميولاتهم وقناعاتهم السياسية (قومية، دينية، يسارية، ليبرالية).. الخ من التوجهات المعبرة عن جوهر الخارطة السياسية والحزبية للشارع العربي، إلا أن تعاطيهم مع القضايا والأحداث اليمنية برؤية ثاقبة وشمولية وعمق مثَّل أحد أشكال التصدي (الثقافي، السياسي والإعلامي) لمحاولات تغييب الوعي العربي والانسلاخ عن قضايا العصر وتقدمه العلمي والفلسفي والوجودي ورفض الاستسلام لمخاطر التهديدات كأمر واقع على هذه الأمة لا تمتلك القدرة على مواجهته. لقد أسهم هؤلاء في تقديم صورة متكاملة لإشكالات وتعقيدات ومخاطر الواقع اليمني، صورة هي أقرب إلى الدقة والوضوح وفرز الألوان السياسية والاجتماعية المكونة لها بأبعادها الثلاثة (محلية، إقليمية ودولية)، ما يميز هذه الشريحة من المثقفين أنها تناولت تطورات الأحداث في اليمن باعتبارها حلقة من حلقات التآمر الذي تتعرض له الأمة العربية، وجزءًا من محاولة دولية لإعادة استنساخ "العرقنة والصوملة" في الواقع اليمني، وان عناصر التمرد والإرهاب الحوثية ودعاة التمزق والانفصال لم تكن أكثر من مجرد آلة وأداة ووسيلة تم اختيارها بعناية فائقة وإعدادها وتأهيلها لتنفيذ سيناريو ودور مرحلي محدد في مسرحية تآمرية متوالية فصولها لتجزئة الأمة العربية وضرب كل مقومات نهوضها الحضاري. لقد أسهم هؤلاء بقسط وافرٍ في نشر الوعي السليم الذي يعلي من قيم العقلانية والمصداقية ويسهم في تصحيح القناعات والمواقف الفكرية والسلوكية الخاطئة للرأي العام وتحريك الطاقات الإيجابية للتعامل المثمر مع هذه الإشكالات داخل اليمن وخارجه. * رئيس تحرير صحيفة 26 سبتمبر اليمنية