قابلت في إحدى المرات الفنان الراحل سلامة العبدالله , بدا مكتئباً ومتعباً ولكن رقيقاً وعفوياً وحقيقياً تماماً كما هي أغنياته الصادقة . سألته :" ما هو شعورك عندما تدرك أن فنك وصوتك قد أثرا وأندمجا في وجدان الكثيرين. بماذا تفكر إذا عرفت أن أغنياتك كانت هي صوت العاشقين والمتألمين والمجروحين والباحثين عن الحب والسعادة ". تأثر هذه الفنان الرقيق بهذه الكلمات ودمعت عيناه ، بدا منشرحاً بعد ذلك ونحن نعدد مجموعة من أبرز أغنياته وشرع يشرح لي مواطن الجمال والشاعرية الكامن فيها . وقال بلهجته الحائلية وبطريقة خرجت من أعماق قلبه:" هل تعرف شيئاً ؟!. أنا مجنون حنان". ولكنه بعد ذلك غاص في حالة من الحزن الشفاف ، وعندما غادرته عاد له ذلك الوجه الكئيب والمتعب الذي شاهدته أول مرة . عرفت وقتها أن ليست نوعية الكلمات وطريقة قولها هما اللتان أثرتا به ، ولكن ربما ما كان خلفهما وهو ما كان يحتاج إليه. الفهم والحب والتقدير لحقيقته وحقيقة العمل الفني الذي قام به طوال عقود . لقد افتقد مثل هذا الفهم في مجتمع حارب وهمش وأثّم الفن والفنانين طوال عقود , وقيل إنه "تاب" في آخر سنواته – كما صدرت بذلك غلاف إحدى المجلات السخيفة- ولكن من ماذا يتوب ؟!. عن أروع شيء يمتلكه وقدمه , وعن حنانه المجنون الذي شحنه في أغنياته الرقيقة . وهكذا انقلبت الرؤية له – و لكل الفنانين الصادقين-. فبقدر ما يجب أن نراه إنساناً كبيراً بتنا نراه مخطئاً كبيراً . في مرة أخرى قابلت الفنان الرائع خالد عبدالرحمن أثناء تصويره مقابلة مسجلة لتلفزيون الكويت. كان مشهده ساحراً بقامته الطويلة وهو يمسك بفخر عوده داخلاً إلى موقع التصوير وفكرت بداخلي :" ( مثل هذه المشاهد الجميلة لا نراها أبدا في الرياض خصوصاً مع فنان بمثل شهرته). بعد ذلك بدأ يعزف بطريقته المميزة وبدأ يغني بصوته العذب وتدفقت أحاسيسه التي مست قلوب الحاضرين جميعاً . تحدثت معه بعد نهاية اللقاء وكان إنساناً حقيقياً , رقيقاً ومتواضعاً ونبيلاً . لم يمض وقت طويل حتى قرر الرحيل , ذهب وحيداً ممسكاً عوده واختفى بعد ذلك وكأنه ذاب وتلاشى في هذه المدينة المجففة من المشاعر. كانت هذه الطريقة التي نعامل بها الفنانين الحقيقيين . أحدهم كان كئيباً , والآخر بدا وحيداً وخجولاً. لم يبحث هؤلاء عن الشعبية والجماهيرية فقد حظوا بالكثير ويبدو عليهم الملل. ولكنهم يريدون شيئاً أبسط من ذلك وأعمق وهو الفهم الاجتماعي الحقيقي لجوهر الفن والتواصل مع هذا الفن بدون شعور بالتأثيم أو التحقير . وهو ينطبق على جميع الفنانين الحقيقيين على مختلف توجهاتهم. ولكن مشكلتنا مع فهم وتقدير واحترام الفنان الحقيقي ( دعك من الفنان الذي يزايد على الأصوليين أنفسهم ويقوم بتحريم 80% من الأغاني ) هي في الحقيقة مشكلتنا مع الفن ذاته . حتى الفنانين أنفسهم مروا بهذا التمزق بين ما يعتقدون أنه يخرج من صميم قلوبهم والثقافة التي تقول لهم إن ما تقومون به آثم ومخجل ومعيب , وهذا ما دفع بعضهم للاعتزال ، وأدى بالآخرين إلى التنفع والتفكير بالفن فقط كمصدر للمال والارتزاق. حتى فنوننا الشعبية تعرضت للتشويه حتى فقدت قيمتها . فالفن إذن في حياتنا لن يعود إلى حقيقته ويلعب دوره ما لم يعاد فهمه كمعبر عن وجداننا وعواطفنا , وهو الذي ينقلنا من الحالة المادية إلى الحالة الإنسانية. الفن الذي يكشف عن ضعفنا الإنساني وأحزاننا , وهو الذي يجعلنا نفهم الآخرين من خلاله قدرته على تصوير المشاعر الإنسانية . إن ذلك سيجعلنا أكثر حساسية وفهماً واحترماً لجروح الآخرين وآلامهم ولشخصياتهم . ولهذا فإن الفنانين يبدو على هذا القدر من الحساسية والشفافية ( كما شاهدت شخصياً في سلامة وخالد) ولا يمكن أن نرى أحداً منهم يقوم بإهانة الناس وإذلالهم مثلما يقوم به شخص آخر افتقد مثل هذه الحساسية الفنية الإنسانية لذا بات يرى الآخرين مجرد أجساد لا روح. من المفترض أن نسقط الآن كل هذه الدعاوى التي لطخت الفن بداخلنا إذا فقط أردنا أن نكون صادقين مع أنفسنا و نحتكم إلى عقولنا وليس إلى عقول الآخرين الذين يريدون أن نكون نسخا منزوعة العواطف. إن عقولنا ترى في هذه الفنون الحقيقية هذا البعد الجوهري وهي التي تساهم في ترقية أرواحنا. إن مثل هذا الجمال المتألق لا يمكن أن يكون خاطئاً . الكذب والخداع والنفاق والحقد وإهانة الآخرين وشتمهم وتكفيرهم وإرسال المراهقين إلى الموت هو الأمر الخاطئ والبشع والخسيس وهو الذي يخدش روعة المعنى الديني الجميل والمتألق وليس الفن الذي لا يؤذي أحداً. أما اجتماعياً فإن الشخص الذي يتعصب ويحتقر الآخرين ويهين المرأة ويهمل تربية أطفاله هو الذي يرتكب العيوب الاجتماعية , وليس شاباً يمسك عوده ويظهر مواهبه ويعبر عن مشاعره الدفينة مؤثراً في أرواح الآخرين . للأسف إن هذه الرؤية الاحتقارية للفن حرمتنا العديد من المواهب التي سحقت أفضل ما تملك وهي تعتقد أنها تقوم بالعمل الصائب , وكذلك خفضت من سقف قيمة العمل الفني نفسه الذي سيتراجع إذا وجد في بيئة تحط من قدره , ولو وجد في بيئة فكرية واجتماعية تدعمه فمن المؤكد أنه سيرتقي ويزدهر. والأهم من ذلك أن هذه الرؤية سلبتنا الحساسية الفنية. قسم منا هجر الفن تماما , وقسم آخر بات يتعامل معه بالقفازات كشيء نجس ، ستستمع به وبعد ذلك ترميه , وتتوب . وقع ذلك أسوأ لأنك لست فقط تحقر الفن بل وتحقر ذاتك الذي أعجبت به ولو لبعض الوقت . عودة الفن إلى حياتنا ووعينا أمر ضروري وليس ترفيهياً . ليس فقط من أجل هؤلاء الفنانين , ولكن أيضا من أجلنا نحن . من أجل أرواحنا وسعادتنا . وأعتقد أن هذا هو الوقت المناسب . ألا تعتقدون أننا مررنا بسنوات متصحرة وجلفة وخالية من الذوق أكثر مما يجب؟!.