عرف العربي خاصة بحرصه على كرامته وعزة نفسه، وهو يضحي في هذا السبيل النبيل بأشياء كثيرة كالمال الذي يأتي عن سؤال، أو المكوث في مكان لا يحاط فيه بالإكرام، ولو كان عيشه فيه رغداً.. طالما صحبه ذل. والقاضي علي بن الحسن الجرجاني كان عالماً وأديباً وناقداً متعدد المواهب، وكان قاضياً عادلاً، عفيفاً كريماً، وقد صنف كتباً كثيرة في الأدب، وأفنى عمره في طلب العلم، غير أنه حين شاخ واعتزل العمل ضاقت موارده المالية - في زمن لم يكن فيه مرتب تقاعدي ولا تأمين - فأشار عليه بعض معارفه ان يذهب للوالي ويشرح له حاله ويطلب منه ما يكفيه، فرفض ذلك بشدة، وانتقد العلماء الذين يقفون على أبواب الأغنياء، وقال قصيدته المشهورة: يقولون لي فيك انقباض وإنما رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما إذا قيل هذا مورد قلت قد أرى ولكنَّ نفس الحر تحتمل الظما ولو انَّ أهل العلم صانوه صانهم ولو عظَّموه في النفوسي لعُظِّما ولكنْ أهانوه فهانوا، ودنسوا مُحيّاه بالأطماع حتى تجهَّما ولم أقض حق العلم ان كنتُ كلما بدا طمع صيرتُه لي سُلَّما أَأشقى به غرساً وأجنيه ذلة؟ إذن فاتِّباعُ الجهل قد كان أحزماً وفي عصورنا القديمة لم يكن كثير من العلماء والأدباء ينالون حقهم من التقدير المعنوي والمادي، بل كان الشعراء يقدمون على كثير منهم، ويعطون مئات الألوف من الدراهم والدنانير بينما يعيش كثير من العلماء والأدباء، في تلك العصور، عيشة الكفاف، كأبي حيان التوحيدي الذي اضطر لأكل ورق الشجر من شدة الحاجة والجوع، ومع ذلك فإن العلماء يجدون لذة معنوية في البحث وطلب العلم قال ابن الجوزي: (لقد كنت في حلاوة طلبي للعلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل..). وكل حر حريص على كرامته وعزة نفسه، وذلك في العلماء والموهوبين من باب أولى، فمقولة: (رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه) حمَّالة أوجه، فهي تدعو لاحترام النفس دون كبر، والتواضع دون ذل، والاعتداد بالنفس دون غرور، وعدم المبالغة في تقدير مواهب النفس فذلك يصيب صاحبه بعقدة الاضطهاد، حيث يحس أنه لم ينل حقه ولم يسعفه خطة فيصاب بالاحباط والاكتئاب. موقف حميدان وحميدان الشويعر مشهور بعزة النفس وقوة الإرادة، رغم أنه كان فقيراً، وقد حض ابنه على ان يثأر من رجل أصابه في يده فتشوهت، وصار حميدان كلما رأى يد ابنه يمرض داخلياً لأنه يحس بالذل الذي أصاب ابنه، فما زال (ينخى ابنه) لكي يثأر لنفسه ممن ظلمه واعتدى عليه حتى فعلها الابن بقوة، وثأر لنفسه بعنف، فارتاحت نفس حميدان واستعاد كرامته، ولكنه اضطر لمغادرة بلدته (القصب) و(نخله) الذي يحبه، فقرر المغادرة هو وأهله حتى لا ينتقم منه الموتور الذي كان معتدياً. وقد قال وهو يهم بمغادرة القصب: «الايام ما يرجى لهن رجوع غدت بخلان لنا وربوع ربوع لنا قد فرق البين شملهم وشوف الديار الخاليات يروع مرقت من الدنيا بيوم وليله واعد أسبوع من وراه أسبوع وسود الليالي ما دري عن بطونها يمسنْ حوامل ويصبحن وضوع والايام لو تخلف بيوم عذرتها لهن بالليالي الماضيات صنوع أجارني ربي خيارها عن شرورها علوم الردى يأتي بهن ربوع وأنا أحب يوم ما أجي فيه مذنب ولا نيب مفراح ولا بجزوع وأنا أحب نومي جوف غيد دوالح إلى ما انتفا ظلم بهن وجزوع (1) واحب صياح القيظ ورد وصادر وصياح غارات الربيع تروع فيا مانع أشرف لي على راس مرقب من قبل شمس بالنهار طلوع لعل على الطيري شلايا ظعاين تقافن على وكر الخليف ربوع ربوع لنا يوم الليالي مريفه واليوم ما عادوا لنا بربوع فاذا كان بايام الرخالي معارف غدوا مثل براق السراب لموع الا يا نخلات لي على جال عيلم حدايق غلب شوفهن يروع اخذت بهن عامين حيال زوافر من الفيض ما خلّنْ في ضلوع فلا يا نخلات الصدر جضَّن بالبكا وهلن يا حدب الجرايد دموع حلفت صافي الما فلا يشربنه مني، ولا يسقى لهن جذوع غرايس يدنني من ها المذلة فلا اسالت الجوزا لهن فروع غلاكن عندي قبل هذا وانكرن عليكن الليالي والزمان يضوع إلى قرّبنْ من غيظ الاصحاب غصتهن لو هن على شط الفرات شروع فلا يا عاير القصب يالجنوبي ليتني اشوفك من حدر السراب لموع نخيت قرم من عيالي مسلط إلى نزر ما ذاق الطعام أسبوع فترى يا ولدي من ثمن الخوف ما سطا والانجاس ما خلوا سبيلك طوع ---------------------- (1) للبيت روايتان فالأولى وردت في عنوان المقال