في أعماق كل الناس عواطف مختلفة من الحب والكره، الرضا والغضب، الإعجاب والاحتقار، وتلك العواطف لا تخرج من أعماقهم إلا بعد مواقف تثيرهم.. فبعض المواقف كالنار تخرج الذهب والخبث.. وعامة الناس لابد أن تمر بهم - ذات يوم وعلى طول الحياة - مواقف تثيرهم إلى أبعد الحدود، وتجعل عواطفهم تصرخ في أفواههم أو أعينهم ولكن الندرة منهم هم الذين يستطيعون تخليد تلك المواقف وتصوير هذه العواطف إما بشعر جميل أو بحكمة باقية أو بمثل سائر.. أما بقية الناس فأقصى ما يستطعيون التعبير بكلام حاد كأنه الصراخ سواء أكانوا راضين أم ساخطين أو بمبالغات ليست على بعضها ولا يحفظها جمالها، أو تكتفي النساء بالدموع، وقد يغلب الصمت وتتحدث لغة الأعين، أو يكون القلب ممتناً واللسان عاجزاً، أو يكون القلب يغلي غضباً وتعجز الكلمات، إلى آخر ما هنالك من مشاعر مضطربة في أعماق النفس البشرية التي تشبه البحر المتلاطم. ٭٭٭ وحدهم فقط الذين امتازوا بالقدرة على التعبير الجميل وجعلوا المواقف المؤثرة كأنها دائمة وإن كانت عابرة، وجعلوا عواطفهم الثائرة حية يشاهدها الناس على مرّ العصور. دواوين الغزل الصادق شواهد على ذلك، واللوحات المعبرة، وكثير من الحكم والأمثال السائرة حين ترجع لمناسبتها حين جاءت ختاماً لموقف وخلاصة مركزة له.. الشعر الإنساني الذي تحس في داخله قلب ينتفض هو تخليد لموقف وخلاصة له وإن لم يكن - بالطبع - شعر غزل وعشق.. ليست الحياة كلها حباً.. ليتها كانت كذلك.. إن فيها من مواقف الألم و(الشّرهة).. ما يكاد يفوق مواقف الحب.. غير أن فيها مواقف الإعجاب أو إرسال الحكمة والاعتبار ما يجعل حياتنا البشرية غنية بمختلف الزوايا والجوانب. ٭٭٭ ورد في كتاب (نهاية الأرب) ان عجوزاً من هوازن كانت بارة بابنها الوحيد، تقدمه على نفسها في كل شيء وحين تزوج ذلك الابن أحب زوجته حباً شديداً، وكانت هذه الزوجة تكره أمه ولا تطيقها، ولكنها لا تظهر لها الكره بل تؤلب قلب ولدها عليها وتكيد لها المكائد، حتى بلغ الأمر بهذا الابن النذل - تحت تحريض زوجته الخفي - أن مد يده على أمه - ليتها يداً قُطعتْ - فماذا كان شعور الأم نحو هذا الموقف الذي يحرق القلب؟ قالت عن هذا الابن العاق إلى أبعد حدود العقوق: ربَّيته وهو مثلُ الفرخ أعظمه أم الطعام ترى في جلده زغبا حتى إذا آض كالفحَّال شذّبه أبَّاره ونفى متنه الكربا أنشأ يمزّق أثوابي يؤدِّبني أبعد شيبي عندي يبتغي الأدبا؟! إني لأُبصر في ترجيل لمته وخطّ لحيته في خده عجبا قالت له عرسه يوماً لتُسمعني: «مهلاً فإنّ لنا في أمنا أربا»! ولو رأتني في نار مُسعَّرة ثم استطاعتْ لزادت فوقها حَطبا! قلت: حقاً إن ألم النفس أشد من ألم الجسد.. ٭٭٭ وروى ابن الجوزي أن عبدالرحمن بن القاسم قال: «مات عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - وخلف أحد عشر ابنا... وبلغت تركته سبعة عشر ديناراً.: كُفن بخمسة، واشتري له موضع قبره بدينارين، وقُسم الباقي على ولده فأصاب كل ذكر منهم تسعة عشر درهماً.. ومات هشام بن عبدالملك فقُسمت تركته على أولاده فأصاب كل واحد منهم ألف الف.. ورأيت - فيما بعد - رجلا من ولد عمر قد جهز في يوم واحد مائة فرس في سبيل الله من ماله الخاص.. ورأيت رجلاً من ولد هشام يتصدق عليه الناس»! قلت: حقا إن الثروة هي الثروة الذاتية لا الورقية، التربية الحسنة والتعليم والإعداد للحياة وليس ترك الملايين لولد أحمق!! كان أحمد بن الزيات وزيراً لبعض خلفاء بني العباس، وكان قاسياً جداً ومطلق اليد، وقد أوقد له تنوراً يقذف في ناره بمن يخالفونه، فقال له أحدهم: - وأين الرحمة؟ فقال: - الرحمة خورٌ في الطبيعة فلما جاء خليفة آخر ناقم على ابن الزيات أمر أن يقذف هذا في تنوره الذي أوقده للناس.. فقال ابن الزيات: - فأين الرحمة؟ فقال: - ألست تقول: الرحمة خورٌ في الطبيعة؟.. ٭٭٭ وقال الحموي في كتابه (ثمرات الأوراق) ص309 باختصار: «لم ير أثبت في موقف الإعدام من تميم بن جميل، فقد كان خارجاً على المعتصم وجيء به أسيراً وقد جلس المعتصم مجلساً عاماً، ودعا بالسيف والنطع وأمر بقطع رأس تميم.. فلما رآه المعتصم أعجب بشكله ومشيه إلى الموت بثبات، فقال: يا تميم، إن كان لك عذر فأت به! فقال: يا أمير المؤمنين لقد عظمت الجريرة وانقطعت الحجة ولم يبق إلا العفو وهو أليق بشيمك الطاهرة ثم أنشد: أرى الموت بين السيف والنطع كامناً يلاحظني من حيث ما اتلفّت وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي وأي امرئ مما قضى الله يفلت ومن ذا الذي يأتي بعذر وحجة وسيف المنايا بين عينيه مصلت وما جزعي من أن أموت وإنني لأعلم أن الموت شيء مؤقت ولكن خلفي صبية قد تركتهم وأكبادهم من حسرة تتفتت كأني أراهم حين أنعى إليهم وقد لطموا تلك الخدود وصوّتوا فإن عشت عاشوا سالمين بغبطة أذود الردى عنهم، وإن متّ موّتوا وكم قائل لا يبعد الله داره وآخر جذلان يسر ويشمت فتأثر المعتصم وقال: إن من البيان لسحرا.. ثم قال: كاد يسبق السيف العذل، لقد وهبتك لله، ثم لصبيتك.. وأعطاه خمسين ألف درهم. ٭٭٭ وتقول «عفيرة الجديسية» في موقف جلدها بسياط الأنفة والغيظ حين أغار قوم على قومها فقتلوا ونهبوا وسلبوا النساء، تقول لقومها: أيجمل ما يؤتى إلى فتياتكم وأنتم رجال كثرة كعدد الرمل؟ وتصبح تمشي في الرّغام عفيرة «عفيرة» زفّت في النساء إلى بعل ولو أننا كنا رجالاً وكنتم نساءً لكنا لا نقرّ بذا الفعل فموتوا كراماً أو أميتوا عدوكم ودبوا لنار الحرب بالحطب الجزل وإلا فخلّوا بطنها وتحملوا إلى بلد قفر وموتوا من الهزل! فللبين خيرٌ من تماد على أذى وللموت خيرٌ من مقام على الذلّ وإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه فكونوا نساءً لا تعاب من الكحل ودونكم طيب العروس فإنما خلقتم لأثواب العروس وللنسل! فبعداً وسحقاً للذي ليس دافعاً ويختال يمشي بيننا مشية الفحل! ٭٭٭ وفي موقف آخر من العصر الحديث: كان الدكتور زكي مبارك من العباقرة، وكان يسمى (الدكاترة زكي مبارك) لكثرة ما نال من شهادات الدكتوراه.. ومع هذا كان يعمل بوظيفة مؤقتة في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وكان عميد الجامعة هو الدكتور طه حسين، ولم يكن يحب زكي مبارك أو يرتاح إليه، بسبب صراحة هذا الأخير المفرطة وعدم اعترافه بأي مجاملة، وحين انتهى عقده رفض طه حسين تجديد العقد، حقداً على زكي مبارك.. خرج الأخير من الجامعة وكتب مقالاً شهيراً عن هذا الموقف.. وكان مما قال في مقاله الشهير: «لو جاع أولادي لشويت طه حسين وأطعمتهم لحمه!.. ولكنهم لن يجوعوا مادامت أرزاقهم بيد الله..» ٭ أما القاضي الجرجاني (واسمه الكامل علي بن الحسن الجرجاني) فقد كان قاضياً عادلاً وناقداً فذاً ألف كتاب (الوساطة بين المتنبي وخصومه) وغيره من الكتب.. وكان عفيفاً حراً كريم النفس.. وفي أواخر حياته أدركته ضائقات مالية متتابعة.. وأشار عليه بعض أصدقائه أن يطلب من فلان وفلان من الولاة والأثرياء فرفض بإباء وأطلق قصيدته المشهورة التي هي عبارة عن (صرخة) حر: يقولون لي فيك انقباض وإنما إذا قيل هذا موردٌ قلت قد أرى ولكن نفس الحر تحتمل الظما ولم أقض حقّ العلم إن كنت كلما بدا طمع صيرته لي سلما أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظّما ولكن أهانوه فهانوا، ودنّسوا محياه بالأطماع حتى تجهما ٭٭٭ وحين غادر آخر الحكام العرب والمسلمين في الأندلس، أبوعبدالله محمد الناصري، غرناطة هارباً من الغزاة، يائساً من الملك، بكى.. فقالت له أمه: «ابكِ كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه كالرجال»