يقولون هناك رابط كبير بين الحكاية والحياكة ،وكلاهما مهنة المرأة وفنها ،هي تحيك كما تحكي .لا تترك الحياكة مهملة فقد تجر من طرف الخيط ويضيع جهدها ، لذا هي تغزل الحكاية بروية حتى لا تضيع منها الفكرة ولا اللحظة . وتنقض كي تحيك . عبر حكايات منظمة ، وعبر فن يحيك لنا من أحداث الأمم ما يحيك مضيفا نكهة تأتي بالطراوة والعبق الذي توشيه السيدة الراوية كما توشي ثوب عرسها . منها عبر ذاك قد نجد أنفسنا أمام مرايا كثيرة ، مختلفة مسطحة أو مقعرة أو محدبة ، كل واحدة تعطينا شكلا ما ، نضحك من شكلنا ، هناك أيضا مرايا قد تبدو قاتمة ، وهناك مرايا تُصنع من مادة قد تنفرنا من أشكالنا ، لكن المرايا هي مرايا فقط لاشيء آخر ، زجاج وصبغة وانتهى الأمر . ، نحن الباقون بما نملك من أحاسيس ، بما نملك من ذكريات ومنهجية القيم التي كسبناها وأسسناها ، ورسمنا بها مشاعرنا وكل ثانية من حياتنا تزيدنا شيئا ما ، وقد تأخذ معها أشياء ، إنه الزمن ما نكسب به وما نخسر . عبر مرايا لثلاث دول قدمت ثلاث نساء حكايتهن وحكين لنا الروايات . تسابقن مع الزمن ورسومه وما عمل خلاله ، ثلاث نساء جمعن كسرات المرايا ، كل واحدة بطريقتها وبانعكاسات هذا الزمن ومجرياته على ذاتها قدمت العمل .. مرايا لثلاث دول ، عبر ثلاث سيدات كل واحدة تعكس مرآتها شكلا غير شكل الأخرى . يتفقن كنساء ويختلفن كأقلام وحوادث ، وقفت ومعي ثلاث روايات ، تختلف عمقا وبثا وتتفق بالقلم النسائي ، كما تختلف السن والتجربة ، بلدان ثلاثة ، بعد أحدها حتى نأى عنا كثيرا لكن تلك السيدة الصينية قربته لنا ووضعته بين أيدينا ، بروايتها السيرة الذاتية لثلاث سيدات صينيات عبر ثلاثة أجيال . تضعنا السيدة (يونغ تشانغ ) عبر ( بجعات برية ) تملك الكاتبة أدواتها التسجيلية ، الوثائقية مع الحرف الجميل ذات التجربة العريقة بالكتابة الصحفية والتي أخذت القلم صديقا منذ زمن طويل راحت تنسج حكايتها ، حكاية الصين ، المرأة التي تضع قدميها في القالب الحديدي كي لا تكبر وتبدأ خطواتها قصيرة جدا ، ضيقة ، يتأرجح جسدها ، ويأخذ التعب منها كل مأخذ ، تلك البجعة الصينية ، ترسم لنا حكاية بجعات ثلاث . والبجعة كلنا شاهدناها عبر الرسومات الصينية المنقوشة بالتطريز بالألوان الفرح وردي مشرق أو ارجواني أخذ من الشفق المغادر آخر نبض به ، فشهق جمالا .. البجعات الثلاث ، تلك الحكاية المنقوش منها تاريخ نسوة الصين ، ومشاقهن تلك المتاعب التي قيدتهن منذ الصغر بأقدام وضعت بقوالب حديدية ، و عبر الاستعمار الياباني وويلاته ، من ثم الصراع بين الأباطرة والشيوعيين ، عبورا بزمن (ماو )، وزوجته والثورة الثقافية تلك الثورة التي جعلت من الحزن والكآبة شعارا لها، فأعدمت فيما أعدمت أرواح الزهور من الشوارع كما اقتلعت الكثير من الآمال ، ورسمت للأسر عبودية أخرى غريبة وعجيبة . إنه الإنسان حين يطغى وحين يتكبر وحين يجهل فيظن الخير في الشر وفي الألم. (البجعات الثلاث ) الرواية الصينية بقلم سيدة صينية راحت تؤرخ أحداثا عاشتها وطرقا سارت عليها ، وعبر كل لحظة زمن عاشتها أو حدثتها أمها وجدتها عنها . في صفحاتها العربية التي تجاوزت الستمائة صفحة ، والتي حملت المأساة التي عاشتها الصين عبر تاريخها وأخبرت العالم أجمع ..حيث كل فصل فيها هو حكاية بذاته . المرأة الأخرى هي (ناهيد رشدلان ) الكاتبة الصحفية والقاصة الإيرانية ، التي تحكي تاريخا حديثا للمرأة الإيرانية قريبا وشبيها بما حولنا من عالم عربي .. ربما نجد تشابها بيننا وبينه ، وربما نجد تضادا ، تتحدث عن البيت الإيراني ، عن المرأة الإيرانية وبما تواجهه مابين تقاليد ودين وبين حاكم ( الشاهنشاه ) والذي يريد أن ينقل المرأة الإيرانية كما سبق أن دعا أبوه ، تخلع الشادور لكنها لا تخلع لا من قريب ولا من بعيد ما هو أعمق! من الشادور ، المرأة الإيرانية حيث للرجال مجالسهم ومعتقداتهم وشرابهم ، وللنساء أيضا مجالسهن ومعتقداتهن وأحاديثهن . وتاريخ الاستلاب الذي لن يكون خلع الشادور إلا جزءا من تحكم آخر بالمرأة ، البسي .. اخلعي ).يتغير النظام ولا تتغير النظرة ، البسي ، اخلعي الأمر يستمر تحكم عن قرب وعن بعد بالمرأة . وتستمر المعضلة عبر حكاية أو رواية (بنات إيران) ، إذا انتقلنا للرواية الثالثة ( بنات الرياض ) وجدناها لا ترسم تاريخا إنما تنقل أحاديث ، وربما أكثر نميمة تستوجب على الكاتبة تلاوة دعاء آخر الرواية لتستغفر عن ذنب ارتكبته، ومجرد هذا الدعاء يضعنا أمام فكرة الرواية ، أو الفكر الذي سيطر على الرواية ، ما بين بوح وخوف من هذا البوح . والرقيب الداخلي الذي يشهر عصاه بوجه ( رجاء الصانع) .. طبيبة الأسنان التي راحت تبحث عن سوس ، لا لتقتلعه ولكن لتعريه ، وضعته تحت مجهر قلمها ونثرته وقالت للناس شاركوني ما رأيت ، ونشرت حكايات لم تتعد الحكايات ، ربما بدأت لي آنية تنتهي بانتهاء الرواية ، وربما لو قارنت بين الثلاث لتفوقت رواية أو سيرة السيدة الكاتبة الصينية وهي ترفرف بأجنحة بجعاتها الثلاث ، عبر الصين ، ولقرأت تاريخا لدولة عبر الحكاية الرواية لسيرةٍ للصين عبر نسائها الثلاث . وهي تكسر السور العظيم ، وتدعنا نمرق منه لنرى ما صار وما حدث ، نشاركها وخز شوكات الدروب الموحلة ، ونرى قلع الزهور . عبر تلك الروايات الثلاث يمكن أن نقارن بين الأقلام والأوطان ، وعبر التجارب النسائية الكثيرة من سطحية ومتوسطة ومتعمقة ، عبر حكايات ليست لمجرد الحكي ، وحياكة تاريخ حتما تختلف عن حياكة ثوب ، ونمنمات الحياة البسيطة تختلف عن الكوارث ، ولو قدر لكاتبة عراقية أن تكتب سيرة العراق ربما فاقت ما كتبت تلك الصينية عبر بجعاتها البرية ..أدلفتني لعبدالرحمن المنيف عبر روايته الثلاثية ( أرض السواد ) .. ولعلي أضع نقطة تشابه ما بين واقع العراق الحالي وما كان من أمر الصين ، لا حدود للظلم ولا نهاية ، وتتلاحق الصور قديما كما نراها واقعا أمامنا ، عالم متوحش لا فرق بين ميليشيا وأخرى ، ولا بين مستعمر ومحتل وآخر ولا تختلف إلا المسميات والشعارات . ثلاث راويات وثلاث روايات يمكن أن تسجل تاريخا ..يقترب ويبتعد ، ويرسل الفكر والعلامات ، عبر تلك الروايات يمكن أن نفكر بما يقدم الفكر للعالم وبمن يحيك التأريخ .. كما تتقدم الفكرة والحديث .. كل ذاك أرسلني مسرعة نحو( أميمة الخميس) في روايتها( الوارفة) . ووجدت أن مسا من خيال جاء بالجوهرة بطلة( أميمة )ليقربها من تاريخ سيرة (بنات إيران) ويضعها في (بنات إيران) وجدت نفسي أقربها من تاريخ جوهرة في رواية الوارفة لأميمة الخميس ، هناك أوجه شبه ومفارقة ، هناك البنت المسكينة وهي تنسج داخلها فكرا وتفوقا ينقلها من عالم لعالم ومن فكر لآخر ، وهي تنسج أيامها ، وتنسج من خلالها لأوقاتها وعلمها وهي الطبيبة البدوية العالقة برمال نجد . في النهاية كلتاهما تلتقي بيهودي .. بنت إيران تتزوجه ، وبنت قعر نجد تستلطفه ولا تبتعد كثيرا ... كما فرضت جوهرة في رواية ( الوارفة )لأميمة الخميس نفسها ، فرضت رواية (الغايب ) ل (بتول الخضيري) هي الأخرى نفسها ربما للتشابه بين ظرف ( اناهيد رشدلان )الكاتبة والبطلة وبين بطلة( الغايب ) حيث كلتاهما ربتهما الخالة العاقر ، لم تكن الأم تتخلى عن أي منهما كثر ما تمنح قطعة من ذاتها لأختها. لا أنهي مشكلتي مع الروايات الثلاث حتى أجدني أقحم الرابعة ( الوارفة ) .. وأجد لزاما علي أن أترك الولوج بتفاصيلها لوقت آخر ، ولكن هل أتممت الحديث عن روايات ثلاث لثلاث سير ذاتية أو شبه ذاتية ؟ تدق في عقلي وتتحرك كل لحظة منذ أعوام كثيرة .لا أظن ذلك فلا يكفي مثل هذه الروايات المليئة بالذات النسوية وعلاقتها بالمحيط سواء من حولها وهي في الداخل أو إذا ما بعدت..