تعاني مراكز الرعاية الأولية الصحية داخل الأحياء من تدني مستوى الخدمة في الكشف والتشخيص والعلاج، إلى جانب تواضع الإمكانات الفنية والبشرية داخل هذه المراكز، كذلك غياب التثقيف الصحي للمرضى والمراجعين في ظل غياب منهجية العمل ب"طب الأسرة" وتوفير احتياجاته من البنى التحتية، والكوادر الطبية المؤهلة. كما تعاني هذه المراكز البالغ عددها على مستوى المملكة أكثر من 1925 مركزاً صحياً من سوء المباني المستأجرة التي تمثل حوالي 81% تقريباً، حيث مضى على استئجار معظمها أكثر من 15 عاماً، ووصلت الحالة الإنشائية والنظافة إلى درجة غير مقبولة من السوء، ولذا رأت الوزارة البدء بمشروع وطني كبير لإحلال المراكز الصحية المستأجرة. وعلمت "الرياض" من مصادرها أن وزارة الصحة كلفت خلال الأيام الماضية لجنة من ذوي الاختصاص والخبرة لدراسة وضع هذه المراكز، وتقييم برنامج "طبيب لكل أسرة"، والوقوف ميدانياً على المراكز الصحية من أجل تقييم خدماتها، ومدى تحقيقها للأهداف التي وضعت من أجلها، ومن ثم إيجاد البدائل الجيدة لتطوير أدائها!. وتعتبر المراكز الصحية هي محضن الرعاية الأولية التي يطلق عليها "طب الأسرة" أو"طب العائلة"، والتي حظيت باهتمام توعوي واجتماع دولي منذ سنوات طويلة، ففي عام 1978م اجتمع مندوبون من 134 دولة ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة اليونسيف و17 منظمة دولية أخرى في المؤتمر الشهير المنعقد في ألما آتا عاصمة كازاخستان فيما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي سابقا، وتوصل المجتمعون إلى أن الرعاية الصحية الأولية هي حجر الأساس لتحقيق هدف الصحة للجميع، الذي تطلعوا إلى تحقيقه على أرض الواقع عام 2000م. وهناك سؤال يطرح نفسه مضت تسع سنوات على الغاية القصوى لتحقيق هذا الهدف الإنساني النبيل، فهل حققت وزارة الصحة في مراكزها الصحية للرعاية الأولية المتناثرة في كل جزء من أرجاء الوطن هذا الطموح العالمي، خصوصاً وأنها قطعت شوطاً طويلاً فيه، أم أنها لم تبرح مكانها منذ أمد بعيد؟. وتهدف المراكز الصحية إلى التثقيف الصحي بأنواعه المختلفة، ورعاية الأمومة والطفولة، والعناية العلاجية، وتوفير الأدوية الأساسية، وصحة الغذاء، والماء الآمن، وصحة العقل" الطب النفسي"، وصحة الأسنان، وغيرها، كما أن التصور المثالي للتخصصات التي تقع في نطاق الرعاية الأولية أو طب الأسرة متعددة، وقد لا يكون لبعضها وجود، البتة في مراكزنا، فضلاً عن محاسبتها على جودة ما تقدمه أو تقصيرها فيه. وليس هذا ضرباً من طلب المثالية النظرية، بل إن ذلك ما تطبقه مراكز صحية في دول مختلفة، فتجربة بعض دول الجوار لا تخفى عن الأنظار، فقد خطت دولة البحرين خطوة جيدة في هذه التجربة، حيث تقدم بعض مراكز الرعاية الأولية "طب الأسرة" فيها خدمات متخصصة. وعزا الدكتور عبدالله الجودي استشاري الوبائيات والبحوث العلمية مدير إدارة الأبحاث في المستشفى التخصصي بالدمام بعض جوانب القصور في مراكزنا الصحية إلى خلل إداري تنظيمي. نظم معلوماتية مفقودة وبين أن الاتجاه الحديث في إدارة الرعاية الصحية الأولية يتمثل في أن تكون القرارات مبنية على البراهين المستقاة من البحوث العلمية الصحية، مؤكداً على أن ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا في وجود نظم معلوماتية صحية متكاملة في مراكز الرعاية الصحية الأولية، مشيراً إلى أن كثيراً من قواعد البيانات في هذه المراكز غير مكتملة المعلومات، متسائلاً: كيف يمكن الثقة بهذا المصدر المهم لصانعي القرار؟. ويستشهد د.الجودي على ذلك بالتجربة الأمريكية، فيقول: في أمريكا تنضم تحت شبكة من البحوث العلمية، وفي هذه الحالة يخدم الملف الصحي صانعي القرار عند الحاجة، لإجراء البحوث،بينما الأمر هنا، يضطر الباحث لتصميم نماذج خاصة، واستهداف عينة لعدم قدرته في الحصول على المعلومة الجاهزة. معاناتنا مستمرة وأكد ل (الرياض) المواطن علي الحسني على أن ما تقدمه هذه المراكز من خدمات لا تليق بمسماها، وأن مهمتها تقتصر على تقديم خدمات سريعة للمراجعين، ومن ثم تحويلهم إلى المستشفيات، مبيناًَ أنها أثقلت كاهل بعض المناطق التي لا تحوي إلا مستشفى واحداً نتيجةً لكثرة تحويل المراجعين إليها، وإلى غياب المتخصصين في تلك المراكز، مضيفاً: ومن هنا يعاني المواطنون والمستشفى من زحام شديد، ونحن نعلم أن من أهم أهداف الرعاية تخفيف الضغط عن المستشفيات المتخصصة". ويرى عايد بن خليفة أن هذه المراكز تخلو من أهم ما يحتاجه المركز الصحي من تجهيزات، مبيناً أنها تفتقر إلى المختبرات الحديثة على الرغم من أهميتها القصوى، وتمنى لو اقتصر الأمر على ربط عدة مراكز صحية بمختبر واحد على أقل تقدير كما هو الحال في دول أخرى، مشيراً إلى أنها ترمي بكل حالة مختبرية إلى المستشفى الأم، وأنه في الغالب في كثير من المناطق مستشفى يتيم. وتساءل هل تقتصر مهمة هذه المراكز على تحويل المراجعين، ومنح الإجازات والأعذار والتقارير الطبية للطلاب وللموظفين؟، وقال: أظن أنه بسبب غياب المتخصص، فربما فتحت باب الإجازات الطبية على مصراعيه للعبث فيها ومنحها لكل من يطلبها. ويوافقه الرأي سلطان العنزي، مؤكداً على أن تلك المراكز تُقصر كثيراً حتى بأدوارها الأولية التي بمستطاعها تنفيذها والمتمثلة في الدور التثقيفي. وقال: لم نرَ في أي مركز صحي شاشة عرض تثقيفية من شأنها تقديم وعي طبي للمراجعين في ساعات الانتظار، إلى جانب شح التوعية عبر الملصقات والنشرات، إضافة إلى إنعدامها في مدارس الأحياء. واضاف: من يريد أن يتأكد من سوء حال المراكز فلينظر إلى كثرة المباني المستأجرة، ذلك أنها أماكن غير مهيأة لتقديم خدمة لائقة، وإلى نقص الأدوية، وقلة عدد الأطباء، وغياب سيارات الإسعاف في كثير منها. ويرى عدد من المواطنين أن هذه المراكز قد أخفقت في كثير من خدماتها لكنها نجحت في جزء من دورها، وهو التطعيم، فقد حمت البلد –بفضل الله- من أمراض خطرة سببت الوفاة في السابق، كما ساهمت بفعالية على القضاء على شلل الأطفال. صعوبة التطوير! وتحدث ل (الرياض) أ.د زهير أحمد السباعي أستاذ طب الأسرة والمجتمع رئيس جمعية تعزيز الصحة عن تجربة المراكز الصحية، قائلاً: في منتصف السبعينات من القرن الماضي قبل حوالي 30 سنة، اجتمع في مدينة ألماآتا عاصمة كازاخستان خبراء واستشاريون ومخططون صحيون من 134 دولة و50 مؤسسة دولية ليتدارسوا سبل تطوير الوضع الصحي في دول العالم، مبيناً أن اجتماعهم توصل إلى أن حجر الزاوية لتطوير الصحة في أي مجتمع يتمثل في تطوير الرعاية الصحية الأولية، وحددوا نشاطات الرعاية الصحية الأولية بأنها تقدم من خلال تلك المراكز، وتشمل إصحاح البيئة، والتثقيف الصحي، ورعاية الأم والطفل، ومكافحة الأمراض المتنقلة، والتغذية، وعلاج المرضى، على أن تكون كلها بمشاركة المجتمع. وقال أسوأ مثل للرعاية الصحية وجدته في مركزين للرعاية الصحية الأولية في بلدين عربيين ألممت بهما بدعوى ألم في خاصرتي، مضيفاً: "كل الذي حصلت عليه من رعاية في أحدهما هو وصفة طبية استغرقت كتابتها دقيقة واحدة فقط منذ اللحظة التي دخلت فيها عيادة الطبيب إلى أن خرجت منها، موضحاً أن الوصفة التي حصل عليها في غضون دقيقة عبارة عن خمس كبسولات مضاد حيوي أي نصف الجرعة المطلوبة مما يجعل احتمال ضررها أكثر بكثير من احتمال فائدتها، أما المركز الصحي الثاني فقد وصف له دواء غالي الثمن قليل الفائدة. ويضيف السباعي:كثيراً ما طرحت على طلابي في الدراسات العليا في كلية الطب سؤالاً: أيهما أصعب أن ننشئ مستشفى يتسع ل 500 سرير أم مركزاً للرعاية الصحية الأولية يقدم الرعاية الصحية الشاملة(العلاجية والوقائية والتطويرية)؟، مبيناً أن الإجابة الصحيحة تتمثل في أن إنشاء المركز الصحي الشامل أصعب، معللاً ذلك إلى إشراك المجتمع في التخطيط والتنفيذ والمتابعة لنشاطات المركز ومساعدة أفراد المجتمع على تبني أسلوب صحي في الحياة. وقال المشكلة هي أننا في كثير من دول العالم نجد هرم الرعاية الصحية مقلوبا، فبالرغم من أن مراكز الرعاية الصحية الأولية إذا ما خطط لها تخطيطا جيدا ونفذت بأسلوب علمي سليم كفيلة بأن تغطي أكثر من (80%)من حاجة المجتمع للرعاية الصحية الشاملة، إلا أننا نجدها لا تحظى بأكثر من 15 %من ميزانية الصحة، في حين تحظى المستشفيات بنصيب الأسد من المال والجهد والقوى البشرية. وعن كيفية تطوير الرعاية الصحية الأولية في بلادنا يقول السباعي: يجب أن يبدأ التطوير بتحديد الهدف، ووضع خطة عمل مرسومة وإستراتيجية واضحة المعالم تبدأ بإعادة النظر في النظام الصحي مروراً بمركزية التنفيذ وانتهاء بتدريب القوى البشرية. ويضيف: المفهوم السائد عند الكثيرين هو أن طبيب الأسرة مهمته علاج أفراد الأسرة الواحدة كبيرها وصغيرها، مؤكداً على أن هذا المفهوم قاصر، مبيناً أن الواقع يقول أن مهمة طبيب الأسرة هي قيادة الفريق الصحي العامل معه من أجل تقديم الرعاية الصحية الأولية الشاملة على أن تكون الأسرة هي الوحدة التي ترتكز عليها هذه الرعاية. وزارة الصحة صامتة! وطرحت "الرياض" بعض تساؤلات المواطنين حول تقصير أداء هذه المراكز على مسؤول المراكز الصحية بالوزارة، لكنه آثر الصمت.