ازداد الاهتمام مؤخرا لدى النظم الصحية في مختلف دول العالم بطب الأسرة، وقامت هذه النظم في إطار سعيها لتخفيف تكاليف الرعاية الطبية المتقدمة بتعزيز وزيادة تواجد طب الأسرة و مستويات الرعاية الصحية الأولية. وتأمل من خلال ذلك إلى تقليل أعداد المراجعين والمحتاجين إلى المستشفيات عن طريق تعزيز الجانب الوقائي والثقافة الصحية بين أفراد المجتمع مما يقلل من مخاطر التعرض للإصابات والعوارض الصحية. وتحدث الأستاذ الدكتور سميح بن محمد الألمعي رئيس الجمعية السعودية لطب الأسرة والمجتمع ووكيل كلية الطب للدراسات العليا والبحث العلمي ورئيس قسم طب الأسرة والمجتمع بكلية الطب بجامعة الملك فيصل لل ( الرياض) عن مفهوم طب الأسرة وأهميته حيث قال إن طب الأسرة(Family Medicine) يُعرّف بأنه التخصص الطبي الذي تقدم فيه رعاية صحية شخصية شاملة ومستدامة للأفراد والأسر، من الناحية العضوية، والنفسية، والاجتماعية. وهو تخصص تتكامل فيه العلوم البيولوجية والسريرية (الأكلينيكية) والسلوكية. وأخصائي طب الأسرة هو الطبيب الذي تلقى بعد حصوله على بكالريوس الطب تدريباً واسعاً ومكثفاً في علوم ومهارات طب الأسرة التي تؤهله لتقديم وتنسيق رعاية صحية متكاملة في الجوانب الوقائية والعلاجية لكل فرد في الأسرة بغض النظر عن عمره وجنسه او نوع مشكلته الصحية. وأضاف بأن طب الأسرة ليس طب المجتمع أو علم الصحة العامة؛ و إنما يستفيد طب الأسرة من معارف ومهارات علوم الصحة العامة، كغيره من التخصصات الإكلينيكية، بقدر ما يسهل له القيام بمهامة كتخصص إكلينيكي يتمحور حول الفرد، داخل أسرته وفي سياق مجتمعه. وقال بأن طب المجتمع (Community Medicine) مصطلح مرادف للطب الوقائي والصحة العامة (Public Health)، وهو أحدثها حيث بدأ استعمال المصطلح في أوائل السبعينيات الميلادية في بريطانيا والولاياتالمتحدةالأمريكية بينما يعود مصطلح الصحة العامة إلى أكثر من مئتي سنة ويعتبر طب المجتمع مجال تخصص للأطباء بينما يعتبر مجال الصحة العامة مفتوحا لجميع العاملين في المجال الصحي بل وفي خارج المجال الصحي كما في بعض الدول كالولاياتالمتحدةالأمريكية. ويعرف طب المجتمع بأنه: "علم وفن دراسة حاجات المجتمع الصحية وتنظيم وتقديم الخدمات الصحية الشاملة وتقييم البرامج الصحية وتطويرها بهدف الرقي بالصحة والوقاية من الأمراض ". و قد عرفت منظمة الصحة العالمية طب المجتمع لاحقا بأنه "توفير الرعاية الصحية الشاملة للناس من قبل الفريق الصحي بهدف تطوير الصحة في المجتمع". أما الصحة العامة فهي "علم وفن الوقاية من المرض وإطالة الحياة، وتعزيز الصحة الجسدية والنفسية، وذلك من خلال تحسين صحة البيئة، ومكافحة الأمراض السارية والتثقيف الصحي والتشخيص المبكر، والعلاج الوقائي للأمراض، وتطوير النظام الاجتماعي الذي يضمن لكل فرد في المجتمع المعيشة المناسبة لحفظ الصحة". وعن حجم تواجد هذا التخصص في المملكة قال الألمعي بأن تخصص طب الاسرة يعتبر تخصصا جديداً نوعاً ما في المملكة العربية السعودية ، فلم يعرف في الأوساط الطبية بالمملكة الا في أوائل الثمانينات الميلادية . بينما نجد أن معظم التخصصات الطبية وجدت في المملكة منذ فترة طويلة، وهناك عدد لا بأس به من الأطباء من حملة تلك التخصصات، إلا أنه لم يكن هناك طبيب سعودي يحمل شهادة التخصص في طب الاسرة قبل ذلك. أما طب المجتمع فالمتخصصون فيه يعدون على أصابع اليد الواحدة في ذلك الوقت. وكانت الكليات و المستشفيات الجامعية (جامعة الملك سعود و جامعة الملك فيصل ) من الأوائل في افتتاح أقسام لهذه التخصصات، ثم تبعتها مستشفيات القوات المسلحة . وفي الوقت الحالي اصبح تخصص طب الاسرة والمجتمع مطلباً في جميع المؤسسات الصحية الحكومية وإن كان هذا يختلف نوعاً ما من جهة الى اخرى .وقال الألمعي ان عدد اطباء الاسرة في المملكة الأن مقارنة باحتياجاتها يعتبر قليلاً جداً، ويمكن تصنيف حملة هذا التخصص بالندرة. أما تخصص طب المجتمع فهو يعتبر غير موجود فعلياً في المملكة وذلك لندرة حملة هذا التخصص من السعوديين. واذا نظرنا الى دول العالم وجدنا أن نسبة أطباء الاسرة من المجموع العام للأطباء تبلغ 52% في كندا ، و 54% في ألمانيا ، و 44% في استراليا ، و 33% في الولاياتالمتحدةالأمريكية. بينما تبلغ نسبة الممارسين العامين وأطباء الاسرة في بريطانيا حوالي 63%. وعند مقارنة هذه النسب مع المملكة العربية السعودية فإننا نعتبر بعيدين جداً من تحقيق اقلها في المستقبل القريب. وأرجع الألمعي النقص الحاد في أطباءالأسرة إلى أسباب عدة من أهمها عدم التخطيط الصحيح لاحتياجات المملكة من الكوادر الصحية المناسبة، وعدم ادراك أهمية هذا التخصص للخدمات الصحية والسياسات الصحية من قبل المخططين والعاملين في المجال الصحي في المملكة الا مؤخراً، وعدم إعطاء كليات الطب في المملكة هذا التخصص الأهمية التي يستحقها، كونه التخصص الذي يجب ان يحمله أكثر من 50% من الأطباء العاملين. وبالتالي لم يتم التركيز عليه في المناهج مقارنة بما هو متاح له في مناهج كليات الطب الغربية، وتم التركيز في الغالب على مدخل لطب المجتمع أكثر من طب الاسرة . وأضاف أن من الأسباب أيضا عزوف الأطباء حديثي التخرج عن هذا التخصص وذلك بسبب عدم معرفتهم بأهميته ومستقبله و انجذابهم الى التخصصات الاخرى والتي عادة تمارس داخل المستشفيات الضخمة والفخمة (او قصور المرض كما سماها المدير الأسبق لمنظمة الصحة العالمية). ولما تلقى هذه التخصصات من المكانة الاجتماعية والزخم الاعلامي . وكذلك لانتشار المفاهيم الخاطئة عن هذا التخصص وأنه ليس له مكان في القطاع الخاص وأن الدخل المادي منه قليل مقارنة بالتخصصات الاخرى. وأيضا عدم معرفة مجمل الناس باحتياجاتهم الصحية في حالتي الصحة و المرض، و عدم علمهم بالحاجة الملحة للطبيب الذي ينسق الرعاية الصحية لهم ويقوم بعلاج 90- 95% من أمراضهم، و يقوم بالوقاية من الأمراض المستقبلية و تعزيز الصحة. وأثنى على القرار الصائب الذي اتخذته المملكة بشأن تبنيى منهج الرعاية الصحية الأولية كأسلوب أمثل لتقديم الخدمات الصحية في المملكة وذلك عن طريق تطبيق مفهوم الرعاية الصحية الأولية منذ منتصف الثمانينات تمشياً مع التوجه العالمي آن ذاك . ودعمها لهذا التوجه بإصدار قرار بإنشاء أكثر من الفي مركزاً صحياً، بدأ تفعيلها مؤخرآ .وقال بأن من أهم اهداف الرعاية الصحية الأولية المحافظة على صحة الأفراد والمجتمع وتعزيزها حتى يتمتعوا بحياة مديدة، بإذن الله، طيبة ومنتجة وذلك عن طريق وقايتهم من الأمراض المزمنة والاصابات الخطرة من خلال الخدمات الوقائية والتثقيف الصحي وتعزيز الصحة، وتقديم الخدمات العلاجية للمشاكل الحادة والمتكررة، وكذلك للأمراض المزمنة بطريقة صحيحة ومستمرة حتى لا يصابوا بأي مضاعفات او اعاقات من هذه الأمراض، وإعادة تأهيلهم اذا لزم الأمر. وقد بينت الأبحاث التي اجريت على نطاق عالمي أن وجود رعاية صحية أولية قوية في أي بلد يؤدي الى تقديم خدمة صحية عالية الجودة وبكلفة أقل . كما أن الدول التي لديها رعاية صحية أولية متطورة ( كالسويد والنرويج ) تحتل أعلى المستويات الصحية في العالم ، وأكثرها في رضى المستفيدين من هذه الخدمات مقارنة بالكلفة الاجمالية لهذه الخدمات. وكذلك بينت الدراسات العالمية أن تقديم الرعاية الصحية الأولية من خلال طب الاسرة يؤدي الى تحسين المؤشرات الصحية ومنها انقاص معدلات الوفيات ، تقليل استخدام أقسام الطوارىء بالمستشفيات ، انقاص نسبة المرضى المنومين والمصابين بالأمراض التي يمكن الوقاية منها، وتقديم خدمة طبية بمستوى عالي الجودة لا تختلف عن الجودة المقدمة من التخصصات الطبية الاخرى وبتكلفة أقل ، كما أن نسبة رضى المتلقين لهذه الخدمة تكون أعلى من مثيلاتها. وقد ذكر في النشرة الدورية التي يصدرها مركز مكافحة الأمراض والوقاية في أمريكا، ان تطبيق مفهوم الصحة العامة (وهو اسم مرادف لطب المجتمع) اسهم في إضافة 25سنة الى متوسط حياة الفرد الأمريكي في هذا القرن .وأضاف الألمعي أنه نظراً لبدء تطبيق نظام الضمان الصحي التعاوني في المملكة ، فإن تطبيق نظام صحي يعتمد على نظام الرعاية الصحية الأولية من خلال طب الأسرة وبمستوى عالي الجودة، سوف يؤدي الى تقديم رعاية صحية متميزة ومقدرة من قبل المتلقين وبأسعار اقل بكثير مما لو تم الاعتماد على تقديم الخدمة الصحية فقط عن طريق التخصصات الطبية الاخرى. كما أنه يؤدي الى تقليل الحاجة الى التخصصات المختلفة والنادرة ذات الكلفة العالية. وقد بينت احدى الدراسات الأمريكية أنه يتم تحويل 4.5% فقط من المرضى المترددين على الرعاية الصحية الأولية الى التخصصات الاخرى، مما يؤدي بالتالي الى تخفيف الكلفة الصحية بشكل كبير. اما في مجال طب المجتمع و الصحة العامة فأننا إذا نظرنا الى الأمراض التي تعاني منها دول العالم بشكل عام والمملكة بشكل خاص ، نجد انها لاتخرج عن المسببات التالية :- أمراض وراثية وخلقية، أمراض معدية، او امراض ناتجة عن سلوكيات خاطئة. وتمثل الأخيرة النسبة العظمى من مسببات الأمراض والوفيات بما يتجاوز 70% (ومنها السمنة، السكري، امراض القلب والشرايين، السرطان، الأمراض الجنسية، وكثير من الأمراض المعدية مثل البلهارسيا والحمى المالطية والكوليرا..الخ) وهي ايضاً تستنزف النسبة الأعلى من الميزانية المخصصة للخدمات الصحية. وتكون هذه السلوكيات الخاطئة على مستوى الأفراد او الجماعات ويكون تأثيرها مباشرا على الصحة ومن هذه السلوكيات (قلة النشاط البدني، العادات الغذائية السيئة، التدخين، الحوادث، الممارسات الجنسية المحرمة،..الخ) او عن طريق التأثيرالسلبي على البيئة (التلوث البئيى) والذي يؤدي الى امراض عديدة مثل السرطانات والأمراض التنفسية. ومن المعلوم ان مكافحة هذه الأمراض تتم عن طريق تغيير هذه السلوكيات على مستوى الأفراد والمجتمعات باستخدام طرق الطب الوقائي كالتثقيف الصحي وتعزيز الصحة (تحفيز الناس ومساعدتهم على اتباع السلوكيات الصحية الحسنة وذلك بنشر المعلومة الصحية الصحيحة ووضع البرامج والوسائل الممكنة لمساعدتهم في هذا المجال) ومشاركة المجتمع بفئاته المختلفة في التخطيط والتنفيذ والتقييم. وعند مقارنة مايصرف على مكافحة هذه المشاكل الصحية عن طريق تطبيقات الطب الوقائي والصحة العامة في مقابل مايصرف على علاجها فان الفرق بينهما شاسع. ويتضح لنا مما سبق ان تطبيق مفهوم الرعاية الصحية الأولية عن طريق طب الأسرة، وكذلك تطبيق الطب الوقائي عن طريق طب المجتمع والصحة العامة، سوف يؤديان الى الحصول على افضل رعاية صحية ومستوى صحي عام بأقل كلفة مالية. وشدد الألمعي على أهمية تطبيق وتطوير طب الأسرة وطب المجتمع في المملكة واتخاذ السبل الكفيلة بتحقيق ذلك عن طريق حث كليات الطب بالمملكة على زيادة الاهتمام بالتدريس والتدريب في طب الأسرة ضمن مناهج التدريس في مرحلة البكالريوس، حيث انه التخصص الذي يجب ان يحمله حوالي 50% من الأطباء والطبيبات العاملين في القطاع الصحي بالمملكة، وزيادة اعداد مراكز التدريب في تخصص طب الأسرة وحث كافة المؤسسات الصحية للمشاركة في ذلك بفتح هذه المراكز لديها ودعمها بأستمرار كأولوية، وزيادة اعداد القبول في هذا التخصص وكذلك زيادة فرص التدريب المختلفة والتعليم المستمر، وسرعة البدء في استحداث برامج تدريبية للحصول على شهادة لطب المجتمع من قبل الهيئة السعودية للتخصصات الصحية وهناك حسب علمي برنامج معد وينتظر منذ فترة موافقة الهيئة لأقراره، وزيادة نسبة الوظائف المخصصة في كافة المؤسسات الصحية لهذا التخصص بما يقلل من العجز الكبير القائم، وتخصيص وظائف باسم متدرب في هذه التخصصات من ديوان الخدمة، والتعامل مع هذا التخصص من قبل ديوان الخدمة المدنية على انه تخصص نادر، وبالتالي اقرار الحوافز المالية ليكون مهنة جذابة تشجع الأطباء للالتحاق والعمل به. مع التاكيد ان هذه الحوافز ستكون لمن يقوم بمعاينة المترددين والمرضى وليس من يتولى العمل المكتبي، وأيضا الاستمرار في سياسة فتح مراكز الرعاية الصحية الأولية النموذجية وتوظيف اطباء الأسرة بها. ومن التوصيات التي طرحها الألمعي أن يتم التركيز وتوجيه أطباء الأسرة للعمل في المراكز الصحية والعناية بالمرضى وترك إضاعة أوقاتهم في أعمال اقل أهمية وانتاجية، و ووضع نظام رقابي صارم للتأكد من ذلك لأنه من الملاحظ للأسف ان كثيراً من المتخصصين في هذا المجال في وزارة الصحة يتوجهون اكثر للعمل الإداري والإشرافي، بخلاف ماهو متبع في القطاعات الصحية الأخرى مثل القوات المسلحة والحرس الوطني، وأيضا استخدام أفضل العلوم والتكنولوجيا ذات العلاقة في الممارسة الطبية في طب الأسرة ومنها الملفات الإلكترونية والطب المبني على البرهان والوسائل التشخيصية الحديثة وإدارة الجودة الكلية، وتقوية العلاقة بين المستشفيات والرعاية الصحية الأولية وطب الأسرة وذلك عن طريق تطوير وتحسين نظام الإحالة والرعاية المشتركة، وكذلك وضع ميزانيات منفصلة في الخدمات الصحية للرعاية الصحية الأولية وطب الأسرة و المجتمع والصحة العامة، وتشجيع ودعم الأبحاث في مجال طب الأسرة وطب المجتمع من قبل الجهات الداعمة، والنشر والتوعية بمفهوم طب الأسرة وطب المجتمع بين كافة طبقات المجتمع بما في ذلك المتخصصين (الأطباء، العاملين الصحيين، المخططين والمشرعين)، وأخيرا الأستفادة من تجارب الدول التي حققت نجاحات واضحة في مجال طب الأسرة والمجتمع .