كثيراً ما تثار معضلات التعليم وتتداول على مستويات متعددة في المجتمع ، ولا يكاد يُطوى ملف حتى يفتح آخر ؛ لكن بعض مسؤولي التعليم لا يناقشونها على المستوى نفسه الذي طرحت به ، مما يؤكد أن أزمة التعليم لا يفيد معها النقاش أو التساؤل أو الطرح الإعلامي والمجتمعي ؛ لأنه لدى بعض مسؤوليه قناعة بأن ليس كل ما يثار جدير بالنظر ، وأن حسابات معينة تُملي عليهم تجاهل ما يطرح من قبل أناس يحدوهم الأمل في التطوير والتغيير والإصلاح . وربما كانت مشاكل التعليم المتراكمة عندهم أكبر وأهمّ مما يطرح خارج نطاق الوزارة ! كان رهان المواطنين وما يزال هو اعتماد سياسة تعليمية تتأسس على تأهيل الدارسين والدارسات تعليما وتربية وتطويرا للمهارات ، وعلى تحقيق تنمية حقيقية تحرر المنظومة التعليمية من ربقة التبعية للأفكار المتطرفة والانقياد لأجندة المتشددين ؛ وهذا يعني أن يتحول التعليم إلى شأن مجتمعي من باب المشاركة والمبادرة في بلورة سياسة تعليمية تنسجم وهوية المجتمع وروح العصر مع المحافظة على قيم الدين ، وإذا كان الإسلام عند البعض رؤى ظلامية وعدمية ويأساً وتيئيساً ووأداً للفكر وتكبيلاً للحريات ، فإلى متى يؤخذ بها دون رؤى الآخرين الذين يدينون بالدين نفسه ، لكنهم يؤمنون بأن الدين لم يكن أبداً ضد الطبيعة الإنسانية وليس حجرا على عقول المسلمين متى ما طبقوا ثوابته التي هي محل إجماع . المنظومة التربوية أداة لتحقيق مشروع مجتمعي واضحة معالمه ، منسجمة أهدافه مع هوية المجتمع ؛ مشروع مجتمعي يضمن احترام كل الأطياف ، ويقطع كل أشكال الإقصاء والاستبداد والامتيازات لفريق ضد آخر ، مشروع مجتمعي يبلوره الجميع ، ويتعاون فيه الجميع ، ويتحمل أعباءه الجميع ، ويستفيد منه الجميع ! وإذا كان هذا شأن التعليم بشكل عام ، فإن ما يخص المرأة أيا كان موقعها لهو أشد وأدهى ، فكل ما يتعلق بها في بلادنا مهما صغر شأنه بات عرضة للتحليل والتحريم ، يأتي على رأس ذلك التوظيف ، فمن حيث المبدأ هناك من يرفض عملها جملة وتفصيلا ويصر على بقائها في بيتها فهو مكانها الطبيعي ، مرورا بقرار تأنيث المحلات النسائية ، والسماح لها بالإقامة في الفنادق دون اشتراط المحرم ، وحقها ببطاقة هوية ، وصولا إلى عملها في مكان مختلط كالبنوك والشركات الكبرى والمستشفيات ، حدّ مطالبة بعضهم بقصر تخصص الطبيبات على كل ما له علاقة بالنساء دون ما له صلة بالرجال ، ناهيكم عن مطالبتهم بفصل المستشفيات كما هو شأن المدارس والجامعات والوزارات وغير ذلك . وفي كل قضية من هذه القضايا تجيش الحشود وتكتب المقالات وتصدر بيانات الشجب والاستنكار ، باعتبار ذلك من القضايا الكبرى التي ستزلزل أركان المجتمع وتلقي به إلى التهلكة ، وقد يتعرض للزلازل وأسراب الجراد والرياح العاتية والأمراض القاتلة ، عقابا على ما اقترفته أيديهم بإخراج المرأة من بيتها !!! تثار هذه الأيام مسألة إدخال الرياضة في مدارس البنات ، وسبق أن طالب مجلس الشورى رعاية الشباب بفتح أندية نسائية تمارس النساء فيها الرياضة ، وصار هذا الموضوع محل تجاذبات كثيرة بين المطالبين والممانعين ، ولكل منهم حججه وأسبابه ورؤاه ، وحجج المنادين بذلك كثيرة منها مواجهة خطر السمنة لدى الفتيات ، الأمر الذي يحتج ضده الممانعون بأن بعض الطلاب يعاني من السمنة مع وجود الرياضة في مدارسهم ، وهذا الأمر وإن كان صحيحا ، فإن ساعة أو ساعتين في الأسبوع لن تفعل شيئا لمن تعاني من السمنة خفيفة كانت أم مفرطة ، لكن الأمر الأساس في هذا هو أن الرياضة حق للفتاة كما هي حق للفتى ، ثم أنها تبعث على النشاط والحيوية وتحرر الجسد من كثرة الجلوس على مقاعد الدراسة ساعات طويلة ، والأهم هو غرس هذه الثقافة في نفوس الطالبات وحثهن على الحركة والنشاط ، فكثير من الطالبات مثلا لا يستعملن الدرج للصعود إلى الطابق الأول في الكليات والجامعات ، حتى لو اضطررن إلى انتظار المصعد أضعاف الزمن الذي يستغرقه صعود الدرج ، وهذا لأنهن اعتدن الكسل والخمول وعدم الحركة طوال سني الدراسة ! أما الممانعون فقد تعددت أسبابهم ! فمنهم من حرمها كعادتهم في استسهال التحريم : " الرياضة في المدارس بالنسبة للبنات حرام ؛ نظراً لما تجرّ إليه من مفاسد لا تخفى على ذي لبّ ، ولا تجوز المطالبة بها ، فضلا عن إقرارها " ! ومنهم من أكد خطورتها على الفتيات وقد سئل عن حكم ممارستهن للرياضة فقال إنه : في حال ممارسة الفتاة رياضة كرة القدم أو كرة السلة ، فإن الغالب أن ممارسات الرياضة فتيات أبكار ، وقد ذكر أهل العلم في كتب الفقه أن في هذا خطراً عليهن ! وليته سأل الأطباء ، بدلا من الاعتماد على رأي في كتب قديمة ليكون ما يقوله مقنعا. أما من اعتمد في منعه على قاعدة سدّ الذرائع فقال : " ولو سلَّمنا بوجود مصالح في النوادي للفتيات إلا أننا بالنظر إلى ما يترتب عليها من مفاسد نجده مضاعفاً بالنسبة لتلكم المصالح ... ومن الأدلة قاعدة ( سد الذرائع ) ... ولا يخفى ما عليه واقع النوادي النسائية في المجتمعات المسلمة، ولذا يقال بالمنع سداً للذريعة المفضية للحرام ! ثم إن المرأة إذا اعتادت ذلك تعلقت به تعلقاً كبيراً لقوة عاطفتها وحينئذ تنشغل به عن مهماتها الدينية والدنيوية.. ، ثم إن المرأة إذا قامت بمثل ذلك كان سبباً في نزع الحياء من المرأة فلا تسأل عن سوء عاقبتها إلا أن يمن الله عليها باستقامة تعيد إليها حياءها الذي جبلت عليه " . تكتظ بلادنا بالأندية النسائية التي تُمارس فيها الرياضة والسباحة وأنشطة رياضية أخرى ، منذ ثمانينيات القرن المنصرم ، ولم نسمع أن تلك الأندية تسببت في انحلال النساء أو في خروجهن عن حياض الدين ولم تؤد إلى ارتدائهن ملابس فاضحة ، وكل الأندية النسائية لديها قائمة من الضوابط يأتي على رأسها ضرورة الالتزام بالملابس الساترة ، حتى السباحة لا تسمح بها إلا بالمايوهات التي تستر الجسم إلى حدود الركبة ، وفيما يخصّ المدارس فإنه لم يعهد منها التساهل مع الطالبات في تطبيق الضوابط ، فالمدارس التي تتشدد حتى في تسريحة الشعر وطوله ، كيف لها أن تتساهل فيما تلبسه الطالبات في وقت الرياضة فيما لو أقرت . وكانت صحيفة الرياض قد أشارت إلى تصريح الأستاذة نورة الفايز " بأن الرياضة النسائية في جميع المدارس في الوقت الحالي لم يحن وقتها " ( 8 يونيو 2009 ) ! وبغض النظر عن مدى صحة الخبر( عكاظ 11 يونيو 2009 ) ، فإن السؤال الذي يطرح هنا هو : متى يحين الوقت لإقرار الرياضة في مدارس البنات ؟ إنه لو كان السبب في عدم إقرارها يعود لنقص التجهيزات ، أو ضيق المباني المستأجرة التي لا يوجد فيها متسع حتى ( للفسحة ) ؛ حيث يكون ذلك في الدرج والممرات لكان الكلام مقبولا ، لكن أن يستمر طرح هذا الموضوع دون إجابة واضحة من الوزارة ، ودون تبرير مقنع فهو أمر لا يفسره سوى ما ذكرناه أعلاه من تغليب وجهة نظر فئة معينة من المجتمع لا تقبل بالرياضة في مدارس البنات من حيث المبدأ ، على وجهة نظر باقي الفئات التي تطالب بالرياضة ضمن الضوابط التي لا تخل بالدين ولا بعادات المجتمع ، لا سيما أن الجو المدرسي نسائي مائة في المائة فمما الخوف ؟ ولا شك أن هذا المنع والمبالغة فيه يكرّس الطبقية التعليمية بين طالبات المدارس الحكومية وطالبات بعض المدارس الخاصة ، تلك الطبقية التي تتمثل في المباني والتجهيزات وعدد الطالبات في الفصول والتأثيث والنظافة والوسائل التعليمية وأجهزة الحاسب الآلي والمطاعم والساحات والمسرح ، علاوة على تنوع المناهج المساندة ويأتي على رأسها تعليم اللغة الإنجليزية منذ مرحلة الروضة ، الأمر الذي حاربه ووقف له بالمرصاد عدد من المتشددين دينيا وفكريا عندما فكرت وزارة التربية في إقراره من الصف الرابع ، كل هذا خلق فجوة كبرى بين خريجي وخريجات التعليم العام والخاص ، بل خلق طبقية تعليمية وثقافية بين هؤلاء وأولئك ، صحيح أن معظم المدارس الخاصة ليس فيها نشاط رياضي رسمي في الجدول الدراسي ، لكن بعضها يقيم أنشطة لا صفية حرة ، تتحرر فيها الطالبات من جمود اليوم الدراسي والروتين العام ، كما أن بعض الكليات والجامعات بدأت في ممارسة أنشطة رياضية وتهيئة أجواء مناسبة لها ، من قاعات ومدربات وأجهزة ، بل إن بعضها أنشأ فرقاً رياضية لكرة السلة وكرة القدم ، وبعضها الآخر كون فرقاً شاركت في مباريات خارجية لأول مرة في تاريخ بلادنا ، مثل فريق جدة يونايتد لكرة السلة الذي لعب في الأردن وفي الشارقة ، كما نظمت جامعة عفت بطولة نسائية لكرة السلة بمشاركة ثماني أندية سعودية تنتمي لعدد من الكليات والجامعات والمدارس الخاصة ، وتوجد جامعات وكليات حكومية لديها أنشطة رياضية غير معلنة تمارسها الطالبات في أجواء ملائمة ولم ينزع ذلك الحياء عنهن ، ولم يشغلهن عن أمورهن الدينية والدنيوية ، كما يزعم الممانعون ! إن منع الأنشطة الرياضية البسيطة داخل أسوار المدارس من قبل مسؤولي التعليم الحكومي ، الذي يقابله نشاط رياضي احترافي يتمثل في فرق مدربة ومنظمة تقوم بمشاركات داخلية وخارجية ، في مؤسسات تعليمية خاصة ، من شأنه أن يعمق الهوة بين بنات الوطن ويشعر المنتسبات للتعليم العام بالإحباط ونقص الحقوق ويوحي بأن الرياضة حق للنخبة دون سواها ، فما يُمنع قليله بحجج واهية في نطاق التعليم الحكومي ، يُغض الطرف عن كثيره في المؤسسات الأخرى ! وليس هذا فحسب بل إن الاتحاد السعودي للفروسية رشح الفارسة علياء الحويطي للمشاركة في فيلم وثائقي يتحدث عن إنجازات رياضة الفروسية ، ويسلط الضوء على أبرز فرسان وفارسات المملكة ، وكانت أروى مطبقاني أول سيدة سعودية تنضم لعضوية اتحاد رياضي سعودي ، وهو مجلس إدارة الاتحاد السعودي للفروسية بوصفها فارسة ! فأي تناقض هذا الذي نعيشه ؟ وما أشدّ صبرنا عليه ! وأخير هاهو العام الدراسي يوشك على نهايته ، فهلا حسمت الوزارة أمر الرياضة مع بدء العام الدراسي المقبل ! نتمنى ذلك .