هل الوطن مجرد مكان وحيّز أم أن الوطن يتحدد بملامح القاطنين على ترابه ومن يشكلون حاضره ويرسمون ملامح مستقبله..؟ آلاف الشباب العربي المثقف من خيرة ما أنجبت رحم الأمة يمتهنون مهناً لا تتفق مع تحصيلهم العلمي، ولا آمال طفولتهم التجأوا إلى حضن الاغتراب، يهيمون في حب الوطن من بعيد لكنهم لا يريدون العودة إليه حالياً. ارتأت" الرياض" طرح السؤال لماذا يختار الشاب مهنة لن يقبل بها في وطنه، ولماذا يمزقه الحنين ولكنه لا يريد العودة؟ وماذا أكلت الغربة من آماله..؟ هناك مناطق مختلفة في كل مدينة بريطانية ترى فيها الوجوه العربية المتعبة تصطدم الأعين ثم تغض النظر خشية طرح تساؤلات، يعيشون حياة الكفاف أحياناً لكنهم راضون بهذه الحياة التي منحتهم شعوراً باحترام حقوقهم كأفراد رغم أنهم غرباء. فما الذي دفع بهؤلاء لاختيار الاغتراب على البقاء في أوطانهم؟ سؤال طرحته الرياض في تحقيق مصوّر في عدد من المدن البريطانية، وهذه عينّة من اللقاءات. عامل في مطبخ أبو الفتوح 37 عاماً مصري يعمل في مطبخ أحد فنادق بلفاست في إيرلندا، يقول إن مصر أصبحت طاردة للسكان. ركود تجاري لا علاقة له بتداعي النظام الاقتصادي الدولي ولا بالكثافة السكانية التي يعلقون عليها خيبتهم حسب قوله " أهه الصين مكتظة بالسكان وحالها أفضل من حالنا ليه " ويؤكد أن السفير أحمد القويسني مساعد وزير الخارجية للشؤون القنصلية والعاملين المصريين في الخارج قال إن عدد المصريين في الخارج وصل إلى 6 ملايين و700 ألف هؤلاء الذين خرجوا بشكل قانوني وكان بالإمكان إحصاؤهم. وحسب قوله " أحنّ لوالدتي التي كانت تطهو لي الطعام لكني الآن أنا أطهو الطعام للأغراب. وبسؤاله إن كان سيقبل بهذا العمل في مصر أجاب: أنا لا فرق عندي، فالعمل هو العمل لكن في مجتمعي يعتبرون أن الطهي غالباً هو عمل مرتبط بالنساء رغم أن أفضل الطهاة رجال، ونظرتهم للطاهي هي غير نظرتهم للمحامي أو الطبيب يعني أشعر بالحرج لو تقدمت لخطبة فتاة وأفصحت عن عملي في مصر خصوصاً وأني أحمل شهادة جامعية، بينما هنا تزوجت فتاة " لاسألتني عن مهر ولا عن زفّة ولا قالت لي أمي قالت ولا خالتي عاوزه. حسابنا في البنك مشترك ندفع منه ايجار الشقة الصغيرة التي نعيش فيها، وكل الفواتير والمستلزمات ندفعها من الحساب، يعني شركاء في كل شيء حتى تنظيف البيت يوم عليّ ويوم عليها. وبسؤاله إن كان يود العودة للوطن قال " أتمنى لأني لا أريد لأطفالي أن ينشأوا بعيداً عن مصر ولهذا السبب قررت تأجيل الموضوع . بائع خردوات حمزة عراقي وأب لثلاثة أولاد يعمل في بيع الخردوات بعد أن كان مسؤولاً لدائرة حكومية صغيرة، يرى أنه يستبعد عودته للعراق وخصوصاً أن العراق تحول إلى حكومة جماعات دينية والبلد ما زال غير آمن، ويرى أن مستقبل أبنائه في بريطانيا أفضل لأنهم يحصلون على تعليم مجاني، ومؤمنين صحياً، وكل طفل من أطفاله يحصلون على مرتب ثابت من الحكومة البريطانية شأنهم شأن كل من لم يتجاوز السادسة عشرة أو من لا يعمل أو يدرس في الجامعة. وتساءل حمزة " أي حكومة عربية ستمنحني سكناً مجانياً كما فعلت لي بريطانيا؟ صحيح أن الوضع مستور لكننا راضين بحياتنا هنا، ولا أخشى على أولادي كما كان الحال في العراق". عامل في سوق الخضار فيصل 22 عاماً من الصومال متزوج ولديه طفل في الرابعة ويعمل في سوق الخضار، هو أيضاً هرب من جحيم الفقر والحروب في الصومال. قال فيصل " والدتي من اليمن، لكن الحال ليس بأفضل هناك أيضاً". فيصل أيضاً يرى أن حياته في بريطانيا تبعث على الرضا رغم حنينه إلى وطنه إلا أنه لن يعود لأنه يرى أنه يتمتع بحقوق المواطن البريطاني في كل شيء، ولا أحد يتدخل في شؤونه ما دام ملتزماً بالقانون. تاجر اسماك رضوان خريج جامعة علوم وتكنولوجيا من الجزائر يبلغ من العمر 35 عاماً، ترك وطنه منذ 9 سنوات لأن الوضع لم يكن آمناً حينها للطلبة فبدأ بالعمل مع مغاربة علموه تجارة الأسماك إلى أن تحسن وضعه وتعلم تجارة بيع الأسماك واستقل في عمله. يقول رضوان " أخرج في الرابعة فجراً يومياً إلى سوق بينينغزغيت في لندن لشراء السمك من تجار الجملة، وأبدأ البيع في إدجوير روود على منصة متنقلة. ورغم عملي في بيع الأسماك إلا أنني أحنّ إلى البحر في الجزائر، وأحنّ إلى الصلاة في المساجد على وقتها، وأحن للحياة العائلية إذ لم أستطع إكمال نصف ديني حتى الآن لأنني مصمم أن أتزوج من بلدي. نعم ..لقد تحسن الوضع في الجزائر وأتمنى العودة لكنني أخشى من أنني اعتدت على الحياة هنا، ورزقي هنا متيسّر ولا أضمن أن أجد عملاً في مجالي في الجزائر دون ضغوطات اجتماعية. ممرضة منال في بداية الأربعينيات وهي ممرضة سورية متزوجة من إنجليزي مسلم ولديها منه طفلة. قالت منال لقد تغير المجتمع وما عاد الإخوة يتحملون مسؤولية الإنفاق على شقيقاتهم حتى لو توفى الوالد، الأحوال الاقتصادية صعبة على الجميع، لقد انتهزت فرصة وجود عقد عمل لأن بريطانيا لديها نقص في الممرضات، وبعد أن عملت هنا فترة أخبرتني إحدى الأخوات ان هناك شاب انجليزي اعتنق الإسلام ويبحث عن زوجة مسلمة، وحصل أن توسط بعض الإخوة في المسجد وحصل الزواج. الحمد لله نحن بخير، وكوني ارتبطت بزوج من هنا أصبح مصيري مرتبطا بمصيره ولدي منه طفلة، لذلك مهما تغير الوضع في سوريا لا أظن أنني سأعود لأن وطن المرأة زوجها. البحث عن زوجة عادل من دولة خليجية في أواخر الثلاثينيات قال بكل صراحة أنا من "البدون" أي أنني محروم من حقوق كثيرة وكانت حياتي صعبة جداً، سمحت لي حرب العراق بالهجرة وادعاء بأنني عراقي بدون وثائق. كان وضعي صعب جداً فبدأت بالبحث عن امرأة تقبل بالزواج مني لتيسير حصولي على أوراق رسمية في فترة أقصر. لجأت إلى مواقع الزواج من مسلمات وأقنعت امرأة يمنية مستوطنة منذ سنوات طويلة هنا ولديها أطفال وهي أكبر مني عمراً بكثير بأن تتزوجني، لم أتزوج من أجل الحب ولا في نيتي الاستمرار، كان الزواج بالنسبة لي مرحلة لذلك لم تنجح علاقتنا لكنني عن طريقها حصلت على الإقامة. وطبعاً لا أريد العودة إلى الوطن العربي. لا يوجد لدي مؤهلات، والحكومة هنا تدفع لي مقابل أنني عاطل عن العمل. وسألته " الرياض " ... ماذا تنوي أن تفعل الآن؟ ... رد ضاحكاً ... سأعود إلى موقع الزواج لعلني أصطاد زوجة أخرى، هناك نساء مسلمات يبحثن عن أزواج، زوجتي السابقة منحتني سيارة وأسكنتني في بيتها وساعدتني لأني لا أتقن الانجليزية ولا اعرف النظام، لكنني كنت دائماً على خلاف معها على الأولاد وعلى عدم مشاركتي في المعيشة إذ هي تعمل وأنا لا يكاد راتبي يكفي لتكاليف تعبئة شحن الجوال وثمن السجائر... يضحك عادل مرة أخرى قائلاً ... بالإضافة إلى رسوم الاشتراك في مواقع المحادثة للزواج. زواج غيرسعيد عبد الرحمن جزائري في الخمسين من العمر، متزوج من انجليزية ولديه منها ابنتين وصبيين. وسيم ومثقف ومتخبط يتمنى لو أنه لم يهاجر أصلاً. قال: " كنت صغيراً في العمر عندما حضرت، كنت في الثامنة عشرة من العمر أتيت على ظهر سفينة مع مجموعة من المهاجرين، كان حينها الأمر مختلفاً وكل شيء كان ميسراً، تزوجت من أم أولادي لأنني لم يكن لي أحد هنا، حتى طقم الزواج الذي ارتديته كانت أسرتها قد ابتاعته لي. لكنني الآن لا أسيطر على تربية بناتي، التزمت دينياً أنا وزوجتي لكن ابنتنا تركت المنزل وتعيش مع صديق لها ولم أستطع إقناعها بالعودة إلى المنزل لأن القانون يدعم حريتها بالاختيار بعد سن السادسة عشرة. أشعر بالخجل من مجتمعي، ولا أستطيع حتى العودة إلى بلدي. ماذا عساني أقول لوالدتي وإخوتي؟ حتى علاقتي بزوجتي رغم أنها علاقة احترام إلا أنها عديمة الدفء، أخبرتها مازحاً ذات مرة بأنني أنوي الزواج بامرأة أخرى كونها أصبح وزنها يتخطى ما هو معقول وفقدت القدرة على القيام بواجباتها الزوجية ولم أعد احتمل عدم اكتراثها، إلا أنها قلبت حياتي جحيماً وهددت بحرق كل شيء. حسب القانون هنا نحن شريكان في كل شيء، لقد أفنيت عمري في العمل لشراء منزل ممتاز وتأسيس شركة. قالت لي سترمي بي في الشارع إن فكرت بذلك مرة أخرى، وأذاقتني بعض ما تنوي عمله إذ أتلفت سيارتي ومزقّت بعض أوراقي الثبوتية المهمة، وهي تعلم تماماً أنني لا أستطيع أن أشكو للشرطة عنها لأنها زوجتي أم أولادي. نعم أتمنى العودة وأن أتزوج امرأة عربية لأنني أشعر بالوحدة هنا لأنني فقدت صلتي بمجتمعي انصياعا لرغباتها مرة إثر مرة إذ كانت تتأفف من العرب دائماً ومن عدم التزامهم بالمواعيد وتدخلهم في شؤوننا بطرح أسئلة لا تعنيهم. اوراق عمل مزورة علي فلسطيني من عائلة تقطن جنوب لبنان، قال " لأن الفلسطينيين وضعهم خاص ليس من السهل أن يمنحوا إقامات دائمة، أسرتي مشتتة.. اسرائيل هجّرتهم عدة مرات عام 1948 وعام 1967 وفي حرب لبنان. وجدت نفسي هنا وأخي في أمريكا. وكوني لا أحمل موافقة بالعمل هنا اضطررت لعمل أوراق مزيفة بأنني مسموح لي بالعمل. أعمل في مكان تغليف مواد غذائية يملكه عراقي، المكان هو عبارة عن ثلاجة ضخمة وعظامي لم تعد تحتمل الساعات الطويلة من الأجواء شديدة البرودة، استمر هذا الحال منذ سنوات وحالياً أسعى لايجاد طريقة للانتقال إلى كندا. نعم أتمنى أن يكون لي وطن أستطيع العودة إليه بدلاً من التشريد على امتداد سنوات، لأن الإنسان بلا وطن هو إنسان بلا كرامة. عشرات اللقاءات مع مغتربين عرب من الجنسين، جميعهم يتحرقون لهفة على الوطن، إلا أنه لا يوجد من بينهم من يريد العودة أو من يستطيع العودة. جميعهم ينتظرون تحسن الاوضاع واحترام حقوق الإنسان، وتغير المجتمع من ناحية الضغوطات الاجتماعية، فهل سينتظرون كثيراً في بلاد الضباب وشمس الوطن تلوّح لهم بالأفق ليعودوا إلى حضنها.