للشاعر اللبناني جوزيف حرب مقطع شعري قصير الأسطر طويل الدلالة، مقطع يمتد ليضيء الكثير من الظواهر والتطورات في مختلف ميادين الحياة والمعرفة. يقول حرب: فتحت في الجدار نافذة لا كي أرى ما قد ترى عيني من الشرفة بل كي أرى الغرفة. هذا المقطع، أو القصيدة بالأحرى، تنبع أهميته من أنه يذكرنا بأن فهم كثير من الظواهر والتطورات التي تكون فيها الذات الإنسانية متفاعلة مع أحداث خارجية، لا يكون في أفضل صوره إن نحن ركزنا النظر على الأحداث ونسينا الذات المتفاعلة. وصف الطبيعة في الشعر مثلاً، أو تناول مفكر ما لمشكلة محددة، أو اختيار عالم لقضية يدرسها، هذه العمليات المتكررة في تاريخ الثقافات الإنسانية تدرس غالباً بالنظر إلى أحد الطرفين، الطبيعة أو المشكلة أو القضية لينسى بعد ذلك الإنسان الذي شغل نفسه بالطبيعة أو بدراسة المشكلة أو القضية، مع أن ما تناوله الإنسان دال عليه مثلما هو دال على ما وقع عليه التناول. يصدق هذا بشكل خاص حين ندرس قضايا التأثر والتأثير ليس على مستوى الأفراد فحسب وإنما أيضاً على مستوى الشعوب والثقافات بل الحضارات. لماذا تشيع ظاهرة محددة في زمن محدد في مجتمع أو ثقافة ما؟ لماذا ينجذب أفراد معينون لمسائل معينة في مجتمعات محددة لا ينجذب إليها أبناء تلك المجتمعات، أو ينجذبون إليها بطريقة تختلف عن انجذاب أهلها إليها؟ إننا حين نذهب إلى أوروبا مثلاً نتحدث عن جوانب معينة في المجتمعات الأوروبية يكون أهلها في الغالب غير عابئين بها، أو نسوها، وحين يأتي الأوروبيون إلى العالم العربي نجدهم يلتفتون إلى جوانب من الحياة الاجتماعية والثقافية لا تلفت نظر الناس أو ليس بالطريقة نفسها. ولأضرب أمثلة محددة تقودني إلى موضوعي الأساسي. حين ذهب رفاعة الطهطاوي إلى فرنسا في أوائل القرن التاسع عشر موفداً من محمد علي حاكم مصر آنذاك ضمن مبتعثي مصر سجل ضمن ما سجل بعض آثار مصر الفرعونية في فرنسا، وكانت تلك المرة الأولى التي يرى فيها آثار بلاده التي جاء منها للتو. اكتشف لدى الفرنسيين، بتعبير آخر، جزءاً من ذاته الثقافية المهملة أو المنسية في بلاده نفسها. بل قد يكون ذلك الجزء أي تلك الآثار مما يتعرض للتدمير ليس بسبب الإهمال دائماً وإنما بسبب كراهية البعض لها لأنها تتصل بحضارة فرعونية وثنية أو منقرضة. لكن الفرنسيين، كما اتضح للطهطاوي، رأوا تلك الآثار من زاوية مختلفة، الأمر الذي يجعلنا أمام ظاهرة تتمثل باهتمام الفرنسيين بآثار لم يكن المصريون يعيرونها أي اهتمام. فماذا سنخرج به؟ الآثار نفسها مهمة وتحولت إلى ميدان ضخم من البحث الأثري والتاريخي على النحو المعروف، لكن الاهتمام بها دال بحد ذاته على وضع الثقافة الفرنسية والعربية في تلك المرحلة. الآثار المصرية نافذة قد نطل منها على ثلاث جهات: الحضارة الفرعونية، الثقافة الفرنسية، الثقافة العربية. نحن إذاً أمام نافذة متعددة المنافذ أو المطلات، مختلفة المشاهد والإضاءات. قد نقرأ ما هو خارج النافذة: الفراعنة المتوارين خلف تراب التاريخ وحجارته، والفرنسيين بحضارتهم التنويرية المتقدة بحب المعرفة والاكتشاف وأيضاً الاستيلاء على مقدرات الشعوب، والعرب المصريين بأميتهم آنذاك ووضعهم الثقافي البعيد عن الاهتمام بالآثار الفرعونية، بل الآثار عموماً، وما تدل عليه. المثال الذي اخترت للتدليل على الظاهرة العامة المشار إليها في بداية المقالة مثال مهم بحد ذاته لأنه يساعد على فهم ما أنا بصدد مناقشته ضمن ذلك الإطار العام لقضية التأثر والتأثير التاريخي. اخترت مثال الطهطاوي لأنه يقع في مفصل مهم في تطور الثقافة العربية المعاصرة في مصر بشكل خاص، لحظة احتكاك خطيرة تعد امتداداً لما ابتدأه نابليون حين جاء مصر في أول القرن التاسع عشر في عملية استفزازية أدت إلى حركة تفاعلية طويلة مرت بالكثير من لحظات الصعود والهبوط، النجاح والفشل، وما تزال معنا إلى اليوم. تلك اللحظة بدأت في بلاد الشام بداية مختلفة، فلم يكن هناك نابليون وإنما إرساليات تبشيرية أفاد منها مثقفون عرب رواد مثل سليم البستاني الذي كان رائداً آخر من رواد المرحلة الجديدة. في الشام بتعبير آخر كانت النافذة مختلفة تماماً. تلك المرحلة يشار إليها الآن بوصفها مرحلة تنوير أو استنارة، مرحلة تفاعل مع عصر الأنوار الفرنسي بشكل خاص. حين ننظر الآن إلى تلك المرحلة وما آلت إليه في الثقافة العربية لن نكتشف الظاهرة الأوروبية أو الغربية المدعوة بعصر التنوير أو الأنوار بقدرما نكتشف الثقافة العربية نفسها. ستكشف لنا تلك المرحلة ليس ما ترى العين خارج الشرفة بقدرما تكشف لنا الغرفة نفسها، منطلق النظر ومخبأ الرؤية والفكر. لكن السؤال الذي نحتاج إلى طرحه لا ينحصر في الأسباب التي دفعت بالثقافة العربية باتجاه فرنسا استنارة بما لديها، فلم يكن ذلك سوى نتيجة طبيعية أو اندفاع طبيعي من ثقافات في وضع متدني من النواحي المعرفية والمدنية إلى ثقافات حققت الكثير في مراتب الرقي. السؤال عن السبب سؤال مركزي طبعاً لكنه ليس الوحيد، فهناك السؤال الآخر حول الكيفية التي تم بها التفاعل مع الآخر، عن الأساليب التي اتبعت للوصول. فمن المهم أن نعرف الجوانب التي اجتذبت اهتمام المتفاعلين، عما أرادوا جلبه من فرنسا أو الغرب بشكل عام، وما لم يريدوا جلبه ورفضوه، مثلما أنه حول الطرق المتبعة لتحقيق ذلك الهدف. هذه وغيرها هي ما يحتاج إلى المزيد من التأمل وقد وقع منه الكثير في مؤلفات عربية عديدة، بل وفي مؤلفات بعض الغربيين المستشرقين والمستعربين الذين استوقفتهم كيفية التفاعل العربي مع المعطى الحضاري الغربي. لكن الباحثين العرب كانوا الأكثر انشغالاً بالتنوير وتحت عناوين مختلفة بعضها لا يشير إلى التنوير بهذا الاسم، وأقيمت الندوات والمؤتمرات وألقيت المحاضرات التي تكشف في مجملها عن طبيعة الثقافة العربية ليس في مرحلة الاستنارة بالغرب وإنما أيضاً في الكيفية التي درست بها تلك الاستنارة ومرحلتها التاريخية والشخصيات التي كانت مؤثرة فيها. فنحن إذاً أمام ظاهرة شديدة التركيب سأحاول تناول بعضها بطرح ما أسميه هنا "أسئلة النوافذ".