الثورة التقنية التي التقطها شباب عصرنا الحاضر بل افتتنوا بها توجب على (المدير أياً كان موقعه) أن يدرك تفوق الشباب في معارفهم على كثيرين من جيل آبائهم، وأضرب لذلك مثلاً: تخرج أحد أبنائي في الجامعة مؤخراً، وبينما كنا في جلسة أسرية أخذ يقص علينا آخر ما قرأ. قال: تمكن بعض العلماء من زراعة خلايا المخ على رقائق الكترونية في محاولة للتعرف على كيفية عمل المخ، وتوصيل الجهاز العصبي للإنسان بالحاسب الآلي!! وقال: يجري حالياً تصميم شبكات يمكنها نقل مضمون (500) كتاب في الثانية الواحدة. وأضاف: إن الجهود قائمة على قدم وساق في مجال الهندسة الوراثية بمشروع "الطاقم الوراثي البشري" ويتكون فريق العمل من ثلاثة آلفل فرد، لمدة عشر سنوات بتكلفة تقدر بثلاثة مليارات دولار، وقبل ذلك ما كنا نتابعه من أخبار النعجة (دوللي) وما سيتبع ذلك من أنها ستدر دواء بعد أن كانت تدر لبناً. أين جيلي من هذه المعلومات التي نعدها من ضرب الخيال؟؟ كثير من الأخبار المتتابعة حول الأخذ بزمام المبادرة في عالم التكنولوجيا وفنها. @@ @@ @@ لقد سرني خبر الاتفاق بين إحدى الشركات السعودية الوطنية للالكترونيات وبين شركة أجنبية تصنع بمقتضاه الشركة الوطنية رقائق معدنية تطلقها الطائرات الحربية لتضليل الرادارات، والشعلات الحرارية المضادة للصواريخ لتمثيل هدف آخر للرادار وخداعه!! وما كان ذلك ليتحقق لولا فضل الله، وإبداع المدير السعودي اللامع، الآخذ بالحديث من أسباب العلم والتطور. @@ @@ @@ وأتساءل: كيف سيكون إعداد المدير، والمعلم، والأستاذ الجامعي، وتطوير أداء كل واحد منهم في ضوء مستجدات هذا العالم؟ بل وأضيف: ما كيفية البناء الجامعي، والمدرسي، ومراكز التدريب للحقبة الزمنية القادمة؟ وأي نوع من المختبرات، والتجهيزات التقنية، وأجهزة الاتصال تحتاج له تلك الأبنية؟ وما هي البرامج المضادة للاغتراب غير المناسب لنا، بينما نحن ننقل التقنية أو نستنبتها؟ وما هي "طرائق الصمود" حتى لا يقع الشاب فريسة اليأس العصري، والاغتراب التقني من اللحاق بالتطورات دون خضوع حضاري للأقوى؟ ليتنا نضع على رأس كل مؤسسة حكومية أو أهلية، وخاصة المؤسسات التعليمية، من يحيط بهذه التحديات، ويسهم بفكره وقيادته في وضع خطة لمواجهتها. @@ @@ @@ إن ما يحدث في العالم من تطورات مبهرة ينبغي ألا يؤدي بنا قط إلى حالة من "الافتتان الحضاري" نصبح فيها مسلوبي الإرادة، أو في حالة من "الخنوع الحضاري"، ذلك لأن ما بلغوه وبلغناه قد أصبحت أسبابه غير خافية؛ فقد تناولتها الندوات والمؤتمرات، واللجان الوطنية، والعربية، والإسلامية على مدى الخمسين عاماً الماضية، ولا بد من بداية عملية استرداد عصرية للأمور الجوهرية، لإعادة بناء منظومة قوتنا الحضارية المتميزة بإدارة بارعة، وذلك من خلال العمل على تحقيق الآتي: أولاً: إقامة سور أخلاقي عظيم عبر منظومة أخلاقية تقوم بتربية الإنسان "المكرم" طليق الفكر، واسع الخيال، المكرم بالصيغة الإلهية (ولقد كرمنا بني آدم)، والذي من خلال عبوديته لله تنبثق حريته الأصلية، التي تحرره من عبودية المادة أو المذاهب التي صاغها أناس مثله. فكل (من) و(ما) هو من دون الله تعالى يحتمل النقص والزيادة، والخطأ والصواب، وهذا معناه إطلاق الروح النقدية، التي هي مصدر التطورات في جانبي حياة الإنسان المادية والروحية منذ حياة الكهف والغابة وصولاً للأبراج والصواريخ. @@ @@ @@ ثانياً: إعمار الأرض بذلك الإنسان ولحسابه، وفقاً للمنظومة العقدية، والإعمار بجانبيه: @ إعمار للروح بأهداف الإعمار. @ وإعمار للعقل باستثارته للتعلم والابتكار. @@ @@ @@ ثالثاً: تحقيق الإعمار الحق للأرض، الذي لا يقتضي ولا يرتضي استثارة لإمكانات العقل، دون إطار يحمي هذه القوى الهائلة، من نفسها، ويكبح جموحها، ذلك الجموح الذي نشهده ونراه في تطبيقات المخترعات العصرية الفتاكة، هذا ما نعلمه من غطرسة للقوة قائم حتى يومنا هذا، وكبح ذلك الجموح يقتضي توفير المكونات الأساسية والعظيمة للشخصية الإنسانية، وترسيخها، وتنميتها، ومن نماذج هذه الأساسيات: @أن غرس عشق المعرفة والعلم سابق على التعلم والتعليم، وأن ألواناً من الإخفاق في التعليم مرجعها المحاولة العكسية، بوضع العربة أمام الحصان. فلنر ما يمكن عمله في مدخل كل منهج استثارة لهذه المحبة قبل تدريس كل مادة! @@ @@ @@ @ التربية على الصدق، وهو فضيلة تحتاج وحدها منهجاً مستقلاً، ولا أكون مغالياً لو رجوت أن يفرد لها عام كامل لتعليمها، والتدريب على تطبيقها، في كل المؤسسات التعليمية وخارجها!! @ التربية على الإتقان. @ التربية على الإخلاص. @ التربية على النقد الموضوعي. @ التربية على حب الإنتاج والإنجاز، وكل تلك الموضوعات وأمثالها ينبغي طرحها على أعلى وأوسع مستوى لتأليف مناهج مبتكرة، وتحكيمها، ومكافأتها بأكبر الجوائز وأرفعها. @@ @@ @@ أما ما نحذر منه حقاً.. فهو التربية على مجرد التلقين والحفظ، والتلقي دون مناقشة أو حوار مفتوح، يُخرج لنا طرازاً ممسوخاً ومشوهاً من "أقنان المدارس" أو "التلاميذ الأقنان"، وهي تربية تقوم على الانضباط الظاهري المزيف، والطاعة المنافقة، تربية تُخرج لنا أفراداً - وإن كانوا قادرين بالحد الأدنى على تنفيذ ما يوكل إليهم بالانصياع والتقليد - فإن فكرهم معطل، وروحهم آفلة، ولعل ما نشكو منه هنا أو هناك، في أنحاء وطننا العربي وأمتنا والذي يتمثل في "النفاق" و"المداهنة" و"التهريج" و"الأداء السطحي" هو ناتج طبيعي للتدفق الآثم لتلك التربية. ويعلم كل منا بالممارسة اليومية بجزء خطير من هذه الحقيقة. أما تجميع كل هذه الحقيقة، فمرهون بالبوح الجماعي والصراحة!! @@ @@ @@ لقد نبهت في كثير من المناسبات إلى ضرورة أن نتحسس موقعنا من التجارب العالمية: فمنذ سنين سجلت قولي في تقديمي للتقرير الأمريكي المشهور "أمة معرضة للخطر": إن من جواهر التقدم وأسراره، معرفة الجديد، وتمييز النافع منه؛ تمهيداً لإحلاله محل القديم، دون التحيز للقديم، سواء بسبب استمراريته ورسوخه، أو بفعل العادة والكسل. @@ @@ @@ ولا معنى إذا كنا قد ارتبطنا بالقديم زمناً من غير الثوابت من القيم أن نستمر في هذا الارتباط، كما أنه لا معنى لأي حساسية تنشأ ونحن بصدد معالجته، (وأضاف الآن: كم في تراثنا من حكم تدور حول محور: "رحم الله امرءاً أهدى إليَّ عيوبي"). @@ @@ @@ إن امتلاك الشعوب لحرية النظر والمراجعة، وإعلان نتائج هذا النقد، وتخطئة ما ينبغي تخطئته، وهدم ما ينبغي هدمه، وإحلال جديد مدروس محل قديم دارس. الواقع أنهم بذلك يمتلكون جوهراً حقيقياً من جواهر التقدم، يسبق في الأهمية كل التفاصيل الهامة والجادة التي وردت في مثل ذلك التقرير الشهير "أمة معرضة للخطر". ولعل هذا الأمر أول ما يستأهل النظر حقاً في هذا التقرير، وأجزم أن الذي أمر بإجرائه إداري واثق على رأس هرم المؤسسة يبحث عن الحقيقة ، ويمقت التملق والنفاق. @@ @@ @@ يقيني ثابت بأن عندنا كعبة وقبلة، وأننا قلب الوطن العربي والعالم الإسلامي، وأن التربية نبت لا يصلح إلا في بيئته، ولا قيمة له إذا فقد جذوره الأصلية. وأؤكد - في الختام - أن الإدارة الكفؤة للمؤسسات هي العامل المهم في كل تفوق يرتجى، ولنتذكر دائماً مقولة: "اعطني قائداً أعطك جنداً"، فإذا تألق الإداري تألق معه من يقودهم ويديرهم. وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم أجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.