أكن احتراماً كبيراً لحشرة صغيرة، وأشعر بكثير من الأسى من أجلها، تلك هي النحلة، ما أروعها. أظن أن النحلة معلمة بدرجة أستاذ لكل ربة بيت تريد أن تكون سيدته، ولكل مسؤول أو مدير يريد أن ينهض بإدارته إلى أرقى مستويات العطاء، وأغلب الظن أننا أخذنا كلمة "خلية" التي هي بيت النحل وأطلقناها على أي جماعة منظمة بما يعني أن النظام، وقيمة العمل، يبلغان الذروة عند تلك الحشرة الصغيرة الرائعة، والمهتم بالنحل وسلوكه قد يدهشه كل يوم اكتشاف جديد يقدمه العلم والعلماء عن مجتمع النحل، معرفة النحلة الغريبة بالرياضيات، الهندسة والحساب بشكل خاص، حتى إن أدق آلات القياس عجزت عن ضبط خلل بسيط بين عين وأخرى في قرص الشمع الذي تختزن فيه غذاءها "عش النحل" والغريب أنها تبني هذا العش دون أن يكون متاحا لها أي مادة أولية.. استخدام النحلة لنظام عسكري صارم (بدون بنادق أو مدافع) حيث تضع على أبواب الخلية حرساً يقظاً وحده الذي يعرف "كلمة السر" يسأل كل قادم عنها، إن عرفها مر، وإلا ضرب حتى الموت وألقيت جثته غذاء للنمل، وعند الأبواب أيضا "أجهزة تكييف البيت"! عدد من "الشغالات" مهمتها فقط الثبات في نقط محددة في الهواء عند الأبواب وهز الأجنحة لتمرير هواء جديد إلى الداخل وتحريكه لتبريد الجو.. ليس هناك مجال لموظف كسول أو مهمل، لكل فرد عمله والعقاب عسير أقله الطرد من مجتمع اليوتوبيا المثالية. بكل هذا الدأب والنظام والجدية تخطط النحلة لغدها، تعطي من خلاياها الجسدية وغددها (إن كان لها غدد لا أعرف) أوعية شمعية تحفظ فيها طعامها الذي تجمعه في مواسم الوفرة لتعيش عليه في أوقات الشح، غريب معرفتها بتقويم العام وبأنواع المحاصيل والزراعة، تعرف أن هناك شتاء قادما، أو خريفا ليس به زهور، وغريب تصميمها لشكل الوعاء الذي أثبت العلم أن له علاقة بحفظ الطعام (العسل) دون أن يحمض أو يفسد وسبحان الخالق. أقول بكل هذا الدأب والجهد والعناء تدبر النحلة - كأستاذة في الاقتصاد والإدارة - قوت غدها، ثم يأتي الإنسان بكل بساطة ويسلبها كل ما جمعت، وإن كان رؤوفا ورحيما وضع لها بعض الماء والسكر، ربما كي لا تموت لتجمع له عسلا مرة أخرى! اكتشف العلماء أن في عسل النحل شفاءً من عديد من الأمراض، هذا مبرر إضافي لسطونا على جهد الآخرين، وحين اكتشفوا أن لدغة النحلة تشفي بعض أنواع الروماتيزم لجأنا إلى هذا العلاج السهل الذي يكلف النحلة حياتها لأنها إن لدغت ماتت. يعزيني عن إجحاف الإنسان بالنحلة المسكينة أن الله عز وجل قد سخر للإنسان كل شيء فلا إثم فيما يفعل، بل لعله محاسب أن سخر الله له هذه النعمة إذا لم يستفد منها، مثلما هو محاسب إن ترك الماشية ترضع صغيرها المحتاج للبن الأم لتشتد عظامه ولم يأخذ لنفسه لبنها الغني بالفيتامينات والكالسيوم يشربه ويصنع منه الجبن ويزين به قهوة الصباح، وان لم يأخذ من الدجاجة خلفتها من البيض لقيمته الغذائية، وإن كبرت الماشية أو الدجاجة أكلها كلها لحماً شهياً . الحقيقة أنني أكتب الآن عن ظاهرة اجتماعية تتفشى في مجتمعنا العربي، فالمشكلة أننا لم نتعلم من النحلة قيمة العمل والنظام، وإنما تعودنا أهمية الأخذ المجاني وطبقناه في سلوكنا، فالموقع الذي يكدح عماله فيحقق نجاحا مبهرا يجني ثمرة هذا الكدح آخر لم يفعل شيئا، بنفس الحق في جني عسل النحل، وأبحاث الطلاب المجتهدين ينال بها - أحيانا - أستاذ كسول ترقية استثنائية..والأمثلة بلا حصر.