رغم كثافة التعدد الديني والمذهبي والقومي والفكري واللغوي الذي عرفه العراق منذ وعلى مدى العصور، ورغم الصراعات التي عاشتها الاقوام التي تساكنت على ارضه وتقاطعت وتواصلت وتنافرت، بل وتجاذبت على ارضه، برزت فيه واستمرت ظاهرة لافتة، لا بل مدهشة احياناً، هي قوة الهوية العراقية، فهذه الهوية حقيقة منغرسة في وعي الاقوام ولا وعيها، ولا احد يسلم لآخر، حاضر أو غائب، بأنه اكثر عراقية منه. انها الهوية العراقية، احدى الهويات الاقدم في المنطقة، والتي تبقى لتذكر بنفسها وبقوتها، حتى حين يتوهم متوهم بأنها مضت وانقضت. قد تلقى في اي بقعة من بقاع العالم عراقياً يقول لك انه غير مسلم أو غير مسيحي، أو حتى انه غير عربي، ولكن لن تلقى من يقول لك، أو يسمح لك ان تقول انه غير عراقي.. فيهود العراق مثلاً، وقد رحل بعضهم الى اسرائيل، بقيت رائحة الشرق فيهم، اذ تخصصوا في الالحان والاغاني الشرقية الشديدة الحنين الى العراق، ما يشبه التعالي على كل انتاج موسيقي أو فني أو قصصي هجين، كان بعض يهود اسرائيل الطبيعيين من غير العراقيين قد توهموا انهم قادرون على ان يجعلوا من ألحان يضعونها أو غناء أو قصص مستحقة ان تنزل بجدارة في خانة الغناء أو الفن الشرقي. ولكن المحاولة فشلت ليبقى اللون العراقي عراقياً صرفاً مستعصياً على التصهين والتحول من الشرق والعراق الى اي نوع من انواع الهجانة والذيلية الفنية والتراثية لبني اسرائيل، قدماء أو جدداً. فالغناء والموسيقى والقصص التي صنعتها شمس العراق وطريقه، لم يستطع تهويل اسرائيل تدجينها، وظلت الاذن الفلسطينية المقيمة على ارضها أو المهاجرة، تميز بين الانتاج الغنائي الصافي الذي ساهم العراق وارضه في صنعه، وكل ما هو آخر من مبتدعات اجواء اسرائيل وصناعتها الفنية المزيفة. في الاذاعات الاسرائيلية نفسها، وفي القسم الغنائي الفني، تسمع يهوداً عراقيين اهل اختصاص، يقدمون انفسهم بشتى انواع التقديم، انهم غير مسلمين أو غير عرب، اما ان يصفوا انفسهم بأنهم غير عراقيين، فهو امر يستحيل عليهم الاقدام عليه. قد يقال في تفسير هذه المفارقة، انهم لا يفعلون ذلك لأن لهم في الانتساب للعراق مصلحة تتعلق باختصاصهم الفني الموسيقي، باعتبار عراقة العلاقة بين فن غنائي من نوع معين والتراث العراقي، ولكن حتى فطنتهم لهذه العلاقة تنم عن حرمة لها في النفس وتمسك وايمان بسبق عراقي على الغير، ولو بموضوع يتعلق بنوع من انواع الغناء والموسيقى، العراقيون فيه هم اصحاب سبق. من قبيل الاقتناع بالجودة والسبق العراقي، ولو في نوع معين بالذات من انواع الغناء الشرقي، سجل يهود عراقيون في إسرائيل نصراً للهوية العراقية، يشهد لهذه الهوية بالقوة الذاتية وحق الاحترام حتى في بلاد الاعداء. ليس بالامر قليل الشأن، ان يضطر الاسرائيليون، ولو من قبيل الحرص على جودة الموسيقى في اذاعاتهم، للتنازل امام قناعة يهودية شرقية، بتفوق معين عند العراقيين العرب في مجال حضاري كالموسيقى. لا شك ان الاسرائيليين راعوا اذواق اليهود الشرقيين في هذا الموضوع، وهم جزء غير قليل الشأن من تكوين شعب اسرائيل. ولكن هل فهم العرب حقاً ما ينطوي عليه ذلك من جوانب القوة التي لا ينتبهون لها دائماً في امتهم! ان في امة العرب من جوانب القوة في هويتها القومية، ما جعلها في الماضي وما يدعوها الآن الى التراجع عن كثير من احباطاتها السياسية وغير السياسية في الكثير من البلدان العربية، بدءاً بالعراق بالذات، حيث تتعدد الادلة على قوة متأصلة في النسج السكاني العراقي الذي فشل الاميركيون حتى الآن في التعامل معه تعاملاً يجنب الولاياتالمتحدة الاميركية، وهي اقوى دولة في العالم، تكاليف الغرق في رمال العراق المتحركة. لقد اثبت العراق في الماضي، وهو يثبت الآن ان هويته الوطنية اشد استعصاء على الاختراق مما كان يتصور اعداؤها والمستهينون بها من الاميركيين. إن ما جرى ويجري في العراق قد ألحق حتى الآن بسمعة الولاياتالمتحدة كدولة قيادية في العالم، ما لم تلحقه بها اي مغامرة سابقة من مغامراتها. أن ما جرى في العراق ويجري منذ تجريد الولاياتالمتحدة حملتها عليه، قد اساء الى الولاياتالمتحدة اساءات قد لا يرقى اليها ما كابدته في فيتنام وغيرها. فهي في العراق تواجه على ضخامة امكاناتها شعباً يقاومها بكل ما في هويته الوطنية من قدرة التماسك الوطني العراقي والقومي العربي. في المقابل نرى وراء الحملة الاميركية القائمة على العراق، عقلاً موروثاً من العصور الاستعمارية، ينطلق من رؤية تبسيطية سطحية تفيد ان شعب العراق تشكل من اديان وطوائف وعشائر لا يمكن ان تتلاقى، وعلى هذا يقيم الاميركيون رهانهم. خميرة الضلال في هذا التوجه، ليس في انه ينكر قوة الطوائف والعشائر والاديان، بل في انه نسي وجود العراقية كرابطة اثبتت الايام انها الاقوى، خصوصاً في الازمات من كل الروابط الاخرى. فمنذ انتقل فيصل الاول الهاشمي من سورية الى العراق، لم يبدأ وطن جديد جامع فقط، مؤسس على عوامل الجمع في وجه عوامل التفريق، بل نشأ ما يشبه ان يكون القبلة السياسية لكل نشاط الاستقلال التحريري في كل الاقطار العربية، وبدا فيه العراق وطناً ثانياً لكل عربي، مؤهلاً مفترضاً فيه ان يتحول في يوم ما الى وطن الوحدة ومصنعها حيثما تكون. والواقع ان العرب هكذا نظروا بذكاء واعتزاز الى غازي ابن فيصل، وهكذا قيموا ثورة رشيد عالي الكيلاني على الانكليز، بالعقلية نفسها التي تعاملوا بها في ما بعد مع مصر عبد الناصر كمطبخ لحركات التحرر والوحدة المصرية السورية. واليوم اذا كان العرب ينظرون الى مملكة عبدالله بن عبد العزيز وجمهورية حسني مبارك على انهما قاعدة الوجود الدولي العربي، فإنما يفعلون ذلك تعلقاً بالمرجعية العربية الاقرب الى ان تمثل امكانات الامة وتطلعاتها الثابتة باتجاه التماسك الوحدوي والفعل السياسي القومي التحرري. لقد نما الوجود السياسي العربي والدولي منذ تحرك العرب وحدوياً بتأسيس جامعة الدول العربية، ثم بإقدام الرئيس عبد الناصر والوطنيين السوريين على مشروع الوحدة المصرية السورية. ولكن هذا النمو لم ترافقه منذ اليوم الاول القدرة والعزيمة المؤسساتيتان، فكان التحالف الغربي الصهيوني اقدر على التخريب مما كانت حركة التحرر العربي قادرة على التماسك والتراكم. لن يكون العراق إلا عربياً اولاً واخيراً، سنته عرب، وشيعته عرب، ومسيحيوه عراقيون متجذرون في ولائهم الشرقي، وان ترحل منهم قوم الى شيكاغو الاميركية ليقيموا فيها ما يشبه ان يكون سرايا حكومية لمسيحيين غلاة في هويتهم الشرقية صامدين، وان كانوا قد اشتطوا في مرحلة من مراحل العهد الملكي العراقي، ليقيموا في الولاياتالمتحدة ما يشبه ان يكون حكومة خاصة بهم! ووجه الشطط ان العراقية الجامعة كهوية، بغنى عن ذلك، اذ برهنت من قبل ومن بعد على مدى العصور، عن انها بين الهويات، احدى اشدها استعصاء على الذوبان. لم يحدد القانون الاساسي، اي الدستور العراقي الصادر عام 1925، اي هوية قومية أو دينية لهذه الدولة. ونصت مادته الثانية على ان العراق دولة ذات سيادة مستقلة حرة. وجاء في المادة الخامسة ان "لا فرق بين العراقيين في الحقوق امام القانون، واختلفوا في القومية والدين واللغة". تعدد الهويات العراقية القومية والدينية والمذهبية تجمع بين العربي والكردي والتركماني والآشوري والكلداني والازيدي والصابئي. هذا التعدد يفرض هوية عراقية واضحة وفاعلة، قادرة على الصمود الداخلي، تعطي العراق دوراً فاعلاً وديموقراطياً، ولو من نوع خاص، في اطار العمل القومي العربي الشمولي الذي شكل العراق ويشكل قوة هامة فيه. من ابرز معالم الحياة السياسية العربية في الزمن الذي نحن فيه، قوة الهوية العراقية ولو ان عنف الصراعات داخلها وعليها لم يغب. واوضح ما تتجلى فيه حدة التمسك بالهوية مواقف السيد المهدي الصدر من السياسة العراقية الرسمية، ممثلة في حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي، وكأن تلك المواقف ما هي إلا رجح تأكيدات صدام حسين المنقولة بالصوت والصورة، المرددة في حياته وبعدها، بأن العراق سينتصر سينتصر سينتصر!! والواقع ان شخصيات مثل الصدر وصدام وطريقتها في الاداء ومضمون رسالتها الى الانسان العراقي، سواء احبها بعض النخب العربية ام لم يحبها، حملت وتحمل خصوصية عراقية اعطت بلاد الرافدين وجوداً هاماً ودوراً هاماً على صعيد الصمود العربي والدور العربي. وخلال فترات طويلة من الحياة العربية المعاصرة، كان ولم يزل للهوية العراقية دور لعبته وتلعبه في المصير العربي، يرقى زمنياً الى ما قبل صدام بكثير، وسيستمر الى ما بعده، بل ان الجاليات العربية في العالم، بدءاً بأميركا، مسلمة وغير مسلمة، يشكل العراقيون جزءاً هاماً وفاعلا منها.