ندين لكثير من المبدعين الخلاقين من عمالقة الشعر الشعبي بتكوين ذائقتنا الشعبية، وصياغة ثقافتنا في كثير من أنماط الحياة، والقيم، والمثل. وإثراء مخزوننا الوجداني بصور عذبة، ومفردات مموسقة، وتفاصيل تحيل الإنسان إلى كائن مرهف، شفاف، مدنف، يبحث عن الحب أخذاً، وعطاءً، وربما عطاء أكثر، ويسيّج واقعه الحياتي بكل أشكال الوجد، والعشق، والحب للحياة، والناس، والأمكنة، بحيث يمارس حياته ككائن سوي جداً، ليس في داخله مكان للخصومات، أو الحقد، أو الرفض للآخرين. لقد شكّل المعلمون الأوائل من الشعراء الشعبيين لدينا ثقافة متعددة الأدوات، والأغراض، وقاموا بصناعة تربية مهيبة وأخّاذة في السلوك، والانتماء، والارتباط بالأرض الجغرافيا، والهوية، وتناولوا تكوينات، وتضاريس، وجغرافيا الجسد عبر مفاهيم سامية، وصيغ ليس فيها الإسفاف، والانحطاط، والسَّفه، ووظفوا نباتات الصحراء، وثرائها العجيب والمذهل- إذا أعطت - في مفرداتهم، وصور عشقهم "ريح النفل في معشبات الفياضي" واستدعوا كائنات الصحراء في الرمز والاستعارة "الطير عانق له طيور تحوم" وأخضعوا عذابات وظروف البيئة لتصوير عذاباتهم في حبهم ولذة الوصل، والتواصل، والتوحد. "ألذ من قطرٍ، بنقر، وسط غار يلقاه من لا في صميله شفاقه". علّمنا هؤلاء الرائعون الأمكنةَ، والأودية، والشعاب في أرض الجزيرة العربية، ورسموا لنا مناخاتها أيام الشح، والجدب، والمحل، وروعة أزمنتها حين الرواء، والخصب، وعبق نباتاتها، وقالوا عن ليل نجد، وهدوئه، وأحلامه، وجلاله، وعظمته، وبهائه، وسحره، ما جعلنا الآن نتوق، ونناضل في أن نتواجد داخل فضاءاته الساحرة المهيبة، فليل نجد عالم خرافي أسطوري لا يمكن أن يدرك عوالمه إلا من عاش لحظات التأمل، والخشوع أمام سلطته، وعظمته، وروعة إيحاءاته، وخصب محفزاته. أنحني كثيراً أمام قامات شامخة في أدبنا الشعبي، أسهمت في تكوين المعرفة والثقافة الشعبية لدينا، وجعلت من صور حياتية مُعاشة إرثاً من الوعي، والفهم، والسلوك. وكرّست مفاهيم الحب الحقيقي والصادق في كل مناحي وتفاصيل الحياة، أمثال راكان بن حثلين، وبديوي الوقداني، وشليوح العطاوي، وابن سبيّل، وابن لعبون، ومحسن الهزاني، وحميدان الشويعر، وزبن بن عمير، وابن دحيم، وسليمان بن شريم، وعشرات غير هؤلاء من المعلمين الذين أخضعوا الكلمة، والصورة، والمكان، والزمان إلى حالة عشق، وحب، وولَه، وإيمان بأن الحب يهذب النفس، والروح، والعقل، ويحيل الكائن البشري إلى نبع عذوبة، ونقاء، وصفاء، وتصالح مع النفس، والناس. هؤلاء العمالقة الأفذاذ فروسيةً، وشجاعة، وكرماً، وتخليداً، وتعليماً وتأصيلاً لثقافة جميلة لا نزال نغوص في أعماقها المذهلة. هل نذكرهم، ونذكّر الأجيال بهم في وضع أسمائهم على شوارع رئيسية في مدن الرياض، أقول مدن الرياض. لأن الرياض "العاصمة" تمددت، ونمت واتسعت بحيث أصبحت أحياؤها مدناً داخل المدينة؟ أحسب أن علاقتنا مع هؤلاء، واعتزازنا بهم يجعلاننا نبادر إلى تخليدهم. إن لم نكن قد فعلنا، وأحسب أننا قد فعلنا، فيكون الأمر جهلاً مني، وهذا اعتراف مسبق.