"ملحوظة" قبل البدء: استبد بنا الألم فعدنا إلى إرثنا من الفرح. نحن أبناء هذه الصحراء الملهمة والمدهشة، نتماهى مع موروثها الثري والممتع من جمال التضاريس والتكوينات المادية والحسية والرمزية، وموسيقى الكلمة وما ترسمه المفردات من لوحات تبعث الحلم، وتستثير الدهشة، وتقولب الكائن في حالة من الوجد، وجزالة الحياة بإيحاءاتها الشفافة من الانصهار، والتلاحم، وتمازج كيمياء الأرواح، والقلوب، والأفكار، وتوحّد المشاعر بحيث تكون هذه جميعها تكويناً في نسغ الناس المتصالحين مع أنفسهم والآخرين، المحبين للحياة بفضائها الجمالي الرحب، العاشقين للجمال في هذا الكون الواسع، ومن تذيبهم نظرة عجلى، أو كلمة ذات إيحاء وغواية، أو رقة تحاكي الغيمات المسافرة، وتتفاعل مع صوت مبحوح يرفع الموال شجياً يستفز العواطف، ويزيل الصدأ عن النفوس، ويحرضها على ممارسة فعل الانصهار، والثورة على القوننة، والتنميط في مسارات العلاقات الإنسانية والعاطفية. نحن أبناء هذه الصحراء مسكونون إلى حد كبير بعلنية الحب الذي مارسه أجدادنا الكبار من المخزومي "وهل يخفى القمر" ومغامراته مع الجمال، وكشفه للمستور، والبوح الصادق الصريح في علاقاته المجنونة، ولقاءاته المترفة.. "وَنَاهِدَة ِالثَّدْيَيْنِ قُلْتُ لَهَا: اتَّكي على الرملِ، من جبانةٍ لم توسدِ فقالت: على اسمِ الله أمركَ طاعةً وإن كنتُ قد كلفتُ ما لم أعودِ فَمَازِلْتُ في لَيْلٍ طَوِيلٍ مُلَثِّماً لذيذَ رضابِ المسكِ، كالمتشهدِ فَلَمَا دَنا الإصْبَاحُ قَالَتْ: فَضَحْتَني فقمْ غيرَ مطرودٍ، وإن شئتَ فازدد! فما ازددتُ منها غيرَ مصّ لثاتها، وتقبيلِ فيها، والحديثِ المردد" ومن عمر سيد الغزل، وفتاه المدلل إلى الجميلين، أساتذتنا الأوائل، ومعلمينا الصادقين، جميل بثينة، وكثيّر عزة، والمجنون، وغيرهم من مهندسي الكلمة، المتفاعلين مع قوانين الحياة، ومشاعر الإنسان، وهذا جميل يصرخ: "إذا قلت: ما بي يا بثينة قاتلي من الحب قالت: ثابت ويزيد وإن قلت: ردي بعض عقلي أعش به مع الناس قالت: ذاك منك بعيد فلا أنا مردود بما جئت طالبا ولا حبها فيما يبيد يبيد" ويحفل إرثنا الفاره ثراء وخصوبة مشاعر، محولاً هذه الصحراء إلى فضاء عشق، ومغامرات، وبوح، فيأتي كثيّر حزيناً، بائساً، شاكياً، ولكن بفرح الحب.. "خليلي هذا ربع عزة فاعقلا قلوصيكما ثم إبكيا حيث حلت ومسّا تراباً كان قد مسّ جلدها وبيتاً وظلاً حيث باتت وظلت وما كنت أدري قبل عزة ما البكا ولا موجعات القلب حتى تولت وإني وتهيامي بعزة بعدما تخليت مما بيننا وتخلت لكالمرتجي ظل الغمامة كلما تبوأ منها للمقيل استقلت" كان ذلك الفرح، وكان هذا الصوت العاشق، المثخن باللوعات والفشل، والنجاحات والانتصارات، وكان إرثاً جميلاً ساهم في تربيتنا على قواعد أن نتفاعل مع الصوت، والابتسامة، والتضاريس، ونقاء الأرواح، ولا نخجل من هذا الموروث، تماما كما كان الخليفة يزيد بن عبدالملك مع الرائعة "حبابة" فقد تخلى عن كل شىء إلا عن نداء القلب الواله المحب العاشق. وكما في إرثنا العربي، وما تركته لنا كتب التراث الخالد من تصوير، وقصص حب خالدة قدمت الإنسان العربي، وبالذات إنسان هذه الصحراء إلى مواقع الانبهار، والتعامل الحضاري، وممارسة العشق بوصفه قيمة، ووعيا، واستجابات بيولوجية وسكيولوجية للوجود الإنساني، كما في ذلك فإن تراثنا الشعبي زاخر بقضايا العشق، وتناولات الشعراء الصادقة من ابن سبيل، والهزاني، وابن لعبون، إلى رسوا المفرجي العوفية في بوحها.. "عديت بالمستقلي من نايفات العداما واخيل برقٍ يسلي لا لاح وسط الظلاما يا خوي واعبرة لي منها عيوني سقاما أبكي ولا أحدٍ فطن لي راع الهوى ما يلاما" إذن: هذا إرث نفخر ونعتز به، ولا نقبل أن يحوله البعض، ويصدر عليه الأحكام، وعلى ممارسات التماهي معه على أنه عار، وخطيئة، ولأننا أبناء هذا الإرث، ومن يؤتمن عليه، فسنظل نحفظه ثقافة ووعياً، وسلوكاً وممارسة.