ظهرت الرياض العاصمة يوم أمس كما حسناء مغسولة بالفتنة، محرضة على تعاطي الوجد، والحب، وغواية العشق، مبهرة في فتنتها، باذخة الترف في دلالها، وتماهيها مع الفرح الحقيقي، كانت مدينة مغسولة بالهدوء النفسي، جاذبة لكل معاني التصالحات بين المكان والزمان، بين الإنسان والآخر، بين الكائن ونفسه، بين البيئة المناخية والاجتماعية وبين توق الإنسان إلى ممارسة الانعتاق من التصنع والجمود والزيف والأقنعة المستعارة، والتلوّن بأكثر من ألف وجه مستعار، ليبدو على حقيقته كائناً جميلاً، عذباً، يتفاعل مع الجمال، ويقتنص لحظات سخائه، واندفاعاته في دروب الانصهار والتماهي مع حالات التوحد الإنساني، والتقارب الحميمي مع محيطه البشري في كل المواقع والفضاءات. بدت الرياض يوم أمس فاتنة، معطرة، جاذبة، تنشر غوايتها الصحراوية، وحسنها البدوي، ورقتها البعيدة عن التصنع، والابتذال، بعد أن غسلتها مياه الأمطار السخية، وأذابت أدران التشوه، وطهّرتها من أوحال الارتياب، والاقتتالات الهمجية، والشكوك، والظنون، وهرطقات الفكر المتخلف، وظهر الإنسان إلى فضاء المدينة بروح الهدوء، والتسامح، والفرح، انعكاساً لواقع تأثير المطر على حياة الصحراء، وإنسان الصحراء منذ الأزل، فاستعاد ألق وتجليات الإيحاءات التي ترسلها نباتات الشيح، والخزامى، والأقحوان، وغدران الأودية، والشعاب، وموارد المياه التي ألهمت "العذريين" وصاغت شهامة ونبل "الصعاليك" وإمامهم عروة بن الورد، وأثرت لغة امرئ القيس، والمنخل اليشكري. وأيقضت الرياض الطفل النائم داخل تكوين الإنسان، بحيث وجد الحافز للتعاطي مع الحياة بكل البراءة والعفوية والوضوح، والشهية المفتوحة كثيراً للعودة إلى البساطة، وتوظيف الزمن من أجل إشباع الغريزة الطفولية، ووأد كل ما هو تلوث، وخلل في فهم الحياة. كانت صباحاتنا شرسة مع واقعنا الحياتي، ومواجهاتنا مع استفزازات المدينة بصخبها، وضجيجها، وازدحام شوارعها، وجلافة بعض الإنسان فيها، وشراسة النظرات المتوجسة، والمشككة، والمتهمة دوما في الشارع، وأمام إشارات المرور، وغياب الابتسامات المحرضة على التواصل، وإيقاظ العواطف الإنسانية بين البشر، أما يوم أمس فقد غسلت الرياض بالغيوم التي أعطت بسخاء وكرم، وأثّرت بالأجواء الناتجة عن قطرات المطر، وما تعد به من خصوبة، ونماء، أثّرت على تعاملات الإنسان، فتحول إلى كائن محب، متعاطف، متسامح، تشع نظراته بالأمل، والفرح، والابتهاج، وانتظار اللحظات المسروقة من عمر الزمن. نحن أبناء بيئة غير مائية، طبعت هذه البيئة حياتنا بالحدة، والجلافة، لكن هذه الصحراء تبقى ملهمة في بعض فصولها المناخية، وهذا يكشف أن إنسانها لديه الاستعداد للغوص في منابع الفرح والدهشة، وأن ما يؤزمه ليس المناخ الجغرافي، بقدر ما هو المناخ الاجتماعي الذي أصبح شرساً ومتوحشاً في محاصرة الناس حتى في التعاطي مع الفرح.