في الحلقة الماضية تحدث الرحالة الإنجليزي (داوتي) عن مجالس القضاء في البادية التي تدار في الهواء الطلق أو تحت ظل شجرة أمام حشد من المتابعين في تطبيق حقيقي لمفهوم الرقابة الاجتماعية. وكيف كان القاضي الذي لا يحمل أي مؤهل علمي يستطيع بحدسه وفطنته وبإشراكه مشورة كبار السن وأهل التجارب من النجاح في حسم نزاعات كبيرة تشمل قضايا الدم والثأر في جلسة واحدة يخير فيها المحكوم عليه بين تنفيذ الحكم أو المنفى مشيراً إلى تعنت بعض رجال الصحراء الفقراء وكيف أنهم كانوا عنيدين في الدفع مدعين دائماً عدم قدرتهم الأمر الذي جعل اغلبهم يعيشون في المنفى لكنه أكد مرة أخرى أنهم لا يكذبون إذا اقسموا بالله، في هذه الحلقة يستكمل داوتي كيفية استجواب المتهم من قبل القضاة والمحلفين وما الذي يفعلونه عندما تغيب البينات المادية ويصبح القسم هو الخيار المتاح لديهم حيث يقول: ولقد رأيت بعض المتهمين يذهبون مع المدعي إلى موعد ليعطي إجابته وهذا يعرف عندهم بالقسم على السيف وهو يؤدى على خطوط معينة يرسمونها بسلاحهم على الرماد في شكل دائرة علامة هكذا (+) ويأخذون حفنة من الرماد وبعد أداء هذا القسم يتعين على الشاكي أن يكون مقتنعاً. وإذا أتهم زيد بالتهام طعام جيرانه. وهو أمر ليس نادر الحدوث. فهو سيفرش طرفاً من عباءته على الأرض ويضع كفه عليها صائحاً أنه مستعد للقسم على أن ذلك لم يحدث وأن ليس في عهدته شيء من ممتلكات من أتهمه. وهناك في الصحراء أنواع من القسم تعتبر ملزمة بين الأعداء. فقد عرفت رجلاً من بني عطية نزل ضيفاً على قبيلة المؤاب الذين كانوا على علاقة طيبة مع قبيلة الفقراء وجاوروهم في المضرب. وقد سمح للضيف بحرية الحديث وسط الفقراء وهم خصوم تقليديون عندما اقسم عند الموقد وأمام شخص يدعى مطلق أنه لن يعمل ضدهم (أعتقد أن الرحالة في هذه الجزئية كان يتحدث عن المعاهدات التي تتم بين القبائل). وضمن مشاهدات الرحالة ما كان يجري في بلدة العلاء من أمن واستقرار بسبب عدالة القضاء فيقول: عندما ترتكب جريمة قتل - أو جريمة كبرى - فعلى القاتل وذويه أن يهربوا من المكان. ويمكنهم أن يعودوا بعد سبع سنوات للاتفاق على دفع الدية. وهناك إيماءات معينة يستعملها البدو وهي ذات دلالة عظيمة، فأنا امسح لحيتي بلطف تجاه شخص لأعاتبه على خطئه في حقي ولأذكره بالشرف. وإذا لمست لحيتي فإني اذكره بالإنسانية التي تجمعنا وبالله الشاهد على كل شيء. واللحية في الجزيرة العربية تعتبر معادلة للشرف وحلاقتها تعني عدم الوقار في أعلى درجاته. وهم يقولون عن الرجل الشريف أو النبيل أن لحيته طيبة (لحية غانمة) ويقولون عن الرجل الذي يشتهي ما هو ملك لغيره (ماله لحية). وقد سمعت أن القاتل يمكنه أن ينقذ حياته إذا استطاع أن يعقد عقدة في غترة طالب الثأر منه. فطالب الثأر في هذه الحال سيعفو عنه (وقبَّل رجلاً غضباناً منك على رأسه وسيزول غضبه) ولكن لا بد من مفاجأته بذلك حتى لا يعترضك بعداء بيديه القويتين. ومن الصيغ البسيطة لطلب العفو والحماية أن تقول (أنا نزيلك) أو تقول عندما تخشى الخيانة والغدر (أنا بوجهك) وأكثر من ذلك وقاراً وتأثيراً على الشخص أن تقول له: وتراني بالله ثم بك يا شيخ.. أنا دخيلك. @ التراث الشعبي في أدب الرحلات