نشرت «الرياض» في عددها رقم 13317 حواراً مع الدكتور سعيد وهاس استشاري علم النفس السريري والأستاذ المساعد بكلية الطب بجامعة الملك فيصل. وقد تلقت «الرياض» التعقيب التالي من الدكتور سعيد الزهراني فيما يلي نص التعقيب: اطلعت على الحوار الذي أجرته الأستاذة ناهد باشطح مع الدكتور سعيد وهاس استشاري علم النفس السريري والأستاذ المساعد بكلية الطب بجامعة الملك فيصل في العدد (13317) من جريدة «الرياض». ولقد استوقفني نداؤه لمعالي وزير الصحة الذي برأ فيه ساحة علم النفس العلاجي مما نُسب إليه أو دُس عليه. وفي اعتقادي أن نداء الدكتور سعيد هو النداء الثاني أو الثالث الموجه لمعالي الوزير. وإن كنت استمعت بطبيعة الحوار وما احتواه من معلومات تركز على الحقائق العلمية والمهنية التي لا تخفى على ذوي الاختصاص إلا أنني أتمنى أن يصل إلى نظر ومسامع معاليه دون اجتزاء أو زيادة أو نقصان. والحقيقة أنني أجد في ذلك اللقاء فرصة للتشديد على ما جاء فيه وكذلك دحض بعض ما نُسب ويُنسب إلى علم النفس من أمور لا تليق به كعلم ولا بمختصيه ممن امضوا عشرات السنوات في التحصيل العلمي والتدريب وتقديم خدماته بفاعلية وايجابية للمحتاجين لها سواء في مستشفيات وأقسام وعيادات الصحة النفسية أو في المستشفيات والأقسام والعيادات الأخرى. على أي حال لن أتحدث هنا كثيراً كما قيل عن بعض العيادات والمراكز النفسية وما أفرزته خدمياً وتفرزه حتى الآن من أوضاع شاذة وتجاوزات مهنية، ولن أتحدث عن اغتنام البعض لتلك الأوضاع الشاذة عن الأعراف المهنية واجتزئها من سياقها العام ومن ثمَّ تضخيمها وتمريرها إلى أصحاب القرار، لن أسهب ليس لأن القلم جف والصوت بح، بل لأن الأمر أصبح أخطر بكثير من مجرد أخطاء، نعم أخطر فعندما يغض الإنسان الطرف عن إحدى «الكبائر» المهنية وينشغل بل ويشغل الآخرين بالصغائر أو حتى بكبيرة أخرى، وعندما يتحول النقاش والاختلاف إلى نزاع وخلاف، وعندما يحاول البعض طمس الحقائق وإلغاء الآخرين. عندما يحدث ذلك فإن بعض الكلام الموثق بالأدلة والبراهين العلمية والمهنية يصبح الحجة الأبلغ لتوضيح الصورة لأصحاب القرار وقت الحاجة أو عند الطلب. وفي ضوء الحوار المذكور أقول إن اللبس لم ينحصر في تحديد معنى الصحة النفسية، كما لم يقتصر على تحديد الأدوار المهنية للاخصائيين النفسيين والأطباء، بل تجاوز ذلك إلى التحديد الدقيق لمتلقي خدمات الصحة النفسية. وكما هو معروف في الأمراض العضوية هنالك فرق في طبيعة المرض وحجم المعاناة ونوعية العلاج بين من لديه تمزق عضلي ومن يعاني من انزلاق غضروفي أو شلل عضوي. والأمر ذاته ينطبق على الحالات النفسية فهناك فرق بين طبيعة الاضطراب وحجم المعاناة ونوعية التدخلات العلاجية لدى من يعاني من اضطراب عقلي أو من اضطراب نفسي أو من مشكلات سلوكية أو من يمر بأزمات أو ضغوط نفسية عابرة. وإذا سلمنا بأن التدخلات العلاجية النفسية «غير الدوائية» أصبحت تسهم بفاعلية ايجابية في تخفيف الآلام والمعاناة المصاحبة للأمراض العضوية مثل أمراض الجهاز الهضمي والأورام وغيرها، فمن باب أولى أن لها أولوية في علاج الاضطرابات ذات المنشأ النفسي عندما تقدم من قبل اختصاصي علم النفس المؤهلين، ولكن وبكل أسف وفي ظل تداخل الأدوار وتنازعها وضبابية القرارات وفقدان الرؤية وربما البصيرة اختلط الحابل بالنابل، فلقد تردد بأن أحد الذين يحملون درجة البكالوريوس في علم النفس ممن أسبغت عليه إحدى عيادات الطب النفسي لقب دكتور يصف الأدوية النفسية وأنا لا اصدق ذلك الأمر الذي اختلقه البعض ثم ضخمه بغرض الإضرار بمهنة بأكملها، لا أصدقه لسبب بسيط هو أن الأدوية النفسية تحت الرقابة ولا يمكن وصفها أو صرفها إلا بوجود وصفة طبية نفسية مصدقة من طبيب نفسي، أما غيرها من الأدوية مثل «البروزاك» فلا تحتاج إلى طبيب حقيقي أو مزيف فهي بكل أسف تباع بدون ضوابط في الصيدليات كما يباع «البندول». وفي الجانب الآخر أصبحنا نرى بعض الأطباء النفسيين يمارسون العلاج النفسي «غير الدوائي» بمباركة من لدن أنفسهم دون أدنى تأهيل أو تدريب أو تصريح رسمي وكأنهم بذلك يقولون واحدة بواحدة، وإن كنا لا نعرف من هو البادئ ولا من هو الاظلم إلا أننا نعرف أن المريض هو المظلوم في نهاية المطاف، فالكلمة عندما تكون في غير موضعها ولا ممن يعرف مغزاها تصبح أشد خطراً من مشارط الجراح عندما تخطئ مكانها، أعود وأقول إن الأمر وصل ببعض أولئك الأطباء إلى تدريب وتعليم الآخرين أساليب وتقنيات العلاج النفسي أو الأسري أو الزوجي، ولن نستغرب كثيراً إذا ما سمعنا أن أحدهم يطبق مقاييس الذكاء أو الشخصية أو يدرب الآخرين عليها فالحبل أصبح على الغارب. إنه تنازع وصراع طفا على السطح بعد انتشار العيادات والمراكز النفسية الخاصة، صراع لا رحمة ولا هوادة فيه، صراع تدور رحاه على أرض علوم ومهن محترمة، صراع نهم هم أصحابه التهام أكبر قدر ممكن من الكعكة، وكم هو مؤسف أن تكون كعكتهم هذه المرة إنسانة أو إنسان حدته الحاجة للاستجارة بهم. وهكذا وحول تلك الغنائم تخصص البعض في لوي عنق الحقيقة ومحاولة التضليل بأن هذا تابع لذاك، والزعم بأن ممارسة العلاج تنحصر في أصحاب هذا التخصص أو في أصحاب الآخر، وأنه لا ينجح إلا بالعقاقير أو بالطاقة أو بالجلسات أو حتى بالسير على الزجاج أو الجمر، وأن معاناة الإنسان سببها ذلك الناقل العصبي «اللعين» الذي لا يرى بالعين المجردة، أو تلك الثقوب في جمجمة الإنسان التي لا تسد إلا بدفع آلاف الريالات، أو حتى في ذلك العملاق النائم في داخل الإنسان. وبقي المستجير بهم أو من يسمونه «المريض» ينظر بشفقة على حالهم متعجباً ومتسائلاً من الأولى والأحق بالعلاج. يا بعض السادة رفقاً بأنفسكم فالأمر لا يحتاج منكم إلى كل هذا العناء في الخدمات العلاجية لعلم النفس أو الطب النفسي أو الخدمة الاجتماعية النفسية سواء قدمت بشكل تكاملي فيما يعرف ب «الفريق العلاجي» داخل مستشفيات الصحة النفسية، أو بشكل تقاربي في المستشفيات العامة، أو بشكل مستقل في مراكز العلاج النفسي وعيادات الطب النفسي، نعم لا يمكن حصرها في ما سبق، بل في ما هو ابعد من ذلك من خدمات وقائية ونمائية، وفيما يقدمه المختصون الآخرون مثل أطباء الأسرة والمجتمع وغيرهم. والحقيقة أن ما نسبته أقل من 1٪ من مراجعي مستشفيات الصحة النفسية هم ممن يحتاجون إلى رعاية طبية نفسية فقط أما البقية الباقية فإن علاجهم يعتمد على الأسلوب التكاملي الحيوي النفسي الاجتماعي، ولكم أن تتخيلوا أن النسبة قد لا تذكر عندما نتحدث عن مراجعي مراكز وعيادات الصحة النفسية. وبعيداً عن الخدمات التي تقدمها مستشفيات الصحة النفسية فإن نسبة كبيرة من الذين يعانون من ضغوط، أو أزمات مهنية أو أسرية أو اجتماعية أو دراسية لا يحتاجون إلا لقليل من الإرشاد والعلاج الموجه والقائم على المنهج العلمي وهو ما يُعرف بالعلاج النفسي المختصر الذي ينحصر في ما بين جلسة واحدة إلى خمس جلسات علاجية على الأكثر، أو في مراجعة مراكز الإرشاد الاجتماعي والأسري. خلاصة القول أن من بين كل أربعة محتاجين لخدمات الصحة النفسية العلاجية واحد فقط يحتاج إلى المعالجة الدوائية مصحوبة بالمعالجات الأخرى، أما الثلاثة الباقون فتنحصر حاجتهم في خدمات الإرشاد والعلاج النفسي أو الإرشاد الاجتماعي والأسري. وربما هذا هو السبب الذي حدا ببعض الأطباء والمختصين الاجتماعيين واختصاصي التمريض في العالم الغربي إلى الالتحاق بمعاهد ومراكز وأقسام علم النفس للحصول على شهادات دبلوم العلاج النفسي التي تؤهلهم وتمنحهم الترخيص المهني لممارسة العلاج النفسي «غير الدوائي» لسد الحاجة له. هذه الحقيقة يؤكدها أحد أساتذة الطب النفسي السعوديون المرموقون - والمؤهل من العالم الغربي - عندما قال إن تقديم خدمة نفسية مقبولة تتطلب وجود من أربعة إلى ستة من اختصاصي العلاج النفسي مقابل كل طبيب نفسي واحد. إن عبثية حب الظهور والتسلط، واستغلال المكانة الإدارية والتمذهب الهني وقبل ذلك اللهث خلف جمع المال بشتى السبل لا يمكن الحد منها دون وجود هيئات علمية مهنية تحاسب تجاوزات منسوبيها وتدافع في ذات الوقت عن حقوقهم المهنية، وما قامت وتقوم به الهيئة السعودية للتخصصات الصحية من جهود كان لها بالغ الأثر في الحد من بعض الظواهر والممارسات السلبية، ويظل إقرار تأسيس جمعيات علمية مهنية تحت مظلة الهيئة أحد المخارج المستقبلية للخروج من نفق سوء التنظيم ولتقويم الأخطاء، وإلى أن تتولى تلك الجمعيات مسؤولياتها فإنني أتمنى على وزارة الصحة أن تستمع إلى أهل الاختصاص - كل في مجاله - من الذين لديهم من التأهيل العلمي والعملي والخبرة ما يجعلهم يقدمون المصلحة العامة على المصلحة الشخصية أو المهنية الآنية وهم كثر ويحملون هما مهنياً ووطنياً لا يمكن التشكيك فيه، ولكنهم لسبب أو لآخر لم يصلوا إلى أصحاب القرار في المجال الصحي أو انهم حاولوا ولكنهم ابعدوا بعد اختزال أو «كبسلة» الصحة النفسية في مهنة الطب النفسي. وأقصد بالاختزال حصر جميع الجوانب المهنية الفنية والتنظيمية والاستشارية لجميع مهن الصحة النفسية في الأطباء النفسيين. ما أقوله ليس فرية بل حقيقة يجسدها واقع الحال، فهل يعقل أن يقوم ثلاثة من أطباء الأطفال على سبيل المثال بوضع التوصيف الوظيفي لمهام وأعمال المئات من أطباء الأنف والأذن والحنجرة، طبعاً لا يعقل - رغم أنهم جميعاً في نهاية الأمر أطباء - ولا يمكن تصديقه حتى لو قيل أن ذلك حدث في العصور الوسطى. أما في عالم الصحة النفسية المليء بالعجائب فقد حدث ذلك، نعم حدث، فعلى الرغم من أن منظمة الصحة العالمية طلبت في شهر مايو من عام 1973م من هيئة خبراء علم النفس لديها توصيف وتحديد المهام الوظيفية للمختصين في علم النفس لإعطاء مقترحاتها حول التصنيف والتوصيف الوظيفي للمختصين في علم النفس العيادي شأنها في ذلك شأن لجان أخرى من أهل الاختصاص من جامعات سعودية، إلى هنا والأمر طبيعي ولكن العجيب أو الغريب هو قيام أحد أعضاء تلك اللجنة بأخذ صورة من مقترحات لجنتهم تلك - نعم صورة وليس الأصل - والذهاب بها إلى واحد من أعلى أصحاب القرار في المجال الصحي لإقرارها؟!، متجاهلاً أن ما طلب من لجنته هو مجرد اقتراحات سوف يتم دراستها مع باقي المقترحات المقدمة من الجهات الأخرى. أما الشيء غير المستغرب فهو أن مقترحات تلك اللجنة تتعارض في الكثير من جوانبها مع الحقائق العلمية والنظم المعمول بها في البلدان الأخرى، هذا التعارض أمر طبيعي ومتوقع ويحدث عندما يبدي الإنسان رأيه في أمر ليس من اختصاصه. كل ما أتمناه ويتمناه معي باقي الزملاء هو أن تجاوز أو خطأ عضو تلك اللجنة ليس له تأثير، عدا ذلك فإننا جميعاً على يقين تام بأن ولاة الأمر في هذا البلد الكريم لم ولن يسمحوا بضياع حق إنسان يعيش في وسط الصحراء فما بالكم بحق تخصص علمي أساسي ومهنة صحية يمثلها المئات من حملة الشهادات العلمية العليا والآلاف من الممارسين في قطاعات الدولة المختلفة. (احتفظ بصور من جميع البيانات من مصادرها وبحسب تسلسلها الزمني لتقديمها لأي جهة رسمية عند الحاجة أو الطلب). وبعد ذلك الخلط في المفاهيم والتفرد المهني والتجاوز الإداري تبرز الأسئلة التالية بإلحاح: 1 - هل يعقل أن يقوم ثلاثة أشخاص من أي اختصاص علمي أو مهني بصياغة نظام أو تصنيف لتخصص أو مهنة أخرى أو حتى لمهنتهم، في ظل وجود العديد من المؤهلين تأهيلاً عالياً من أصحاب ذلك التخصص المعني بالنظام أو التصنيف؟ 2 - هل يجيز النظام لعضو لجنة مصغرة أن يقتص مقترحاته من بين عدة مقترحات مقدمة من جهات رسمية منها جامعات سعودية ومن ثمَّ يقوم بتمريره إلى أصحاب القرار في جهته الحكومية التي يعمل فيها دون إعلامهم بباقي المقترحات؟ 3 - تحت أي ذريعة يمكن لموظف حكومي أن يلغي عمل لجان رسمية وعمل سنوات لمجرد وجوده في لجنة مكونة من ثلاثة أشخاص اجتمعت لبضع ساعات؟ وأي جسارة هذه التي تجعله يضلل المسؤولين وأصحاب القرار؟ أسئلة أكثر تبحث عن إجابة وقصة غريبة من قصص عالم الصحة النفسية المليء بالعجائب. بقي أن اختم تعقيبي هذا والذي يحمل في مضمونه الكثير من العشم والقليل من العتاب، اختمه بمناشدتي معالي وزير الصحة الذي ندرك جميعاً مدى حرصه على مصلحة متلقي الخدمات الصحية، وكذلك مقدميها النظر فيما ورد في تعقيبي هذا. كما أتمنى ذات الشيء على وكيل وزارة الصحة للشؤون التنفيذية الدكتور منصور الحواسي الذي تشرفت وزميلي الدكتور وهاس بمقابلته فكان نعم الإنسان المسؤول والمهني الخلوق وهذا ما يعرفه عنه الجميع. ختاماً ما كنت لأنشر هذا الموضوع - رغم أنه شأن عام - لولا أنني وزملاء من جامعات سعودية لم نتمكن وعلى مدى شهرين من الاجتماع مع من تسبب في ذلك الخطأ لتصحيح ما يمكن تصحيحه.