يشكل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بفرض رسوم جمركية على الأدوية المستوردة خطراً كبيرًا على حياة وجيوب المرضى، خاصة في الولاياتالمتحدة، حيث يواجه هؤلاء المرضى أسعارًا أعلى ونقصًا أكبر في الأدوية الأساسية، في ظل اختناق سلاسل التوريد، وبالفعل، فقد بدأت الإدارة تحقيقًا بشأن ما إذا كانت واردات الأدوية ومكوناتها تهدد الأمن القومي الأمريكي، وهي محاولة لوضع الأساس القانوني لفرض رسوم محتملة على الأدوية المصنعة في الخارج، ويعتبر سوق الدواء في الولاياتالمتحدة من الأسواق الضخمة التي تحقق أرباحاً مهولة، حيث وصلت إيراداته إلى 602 مليار دولار في عام 2024، مع توقعات بنمو كبير يلامس تريليون دولار بحلول عام 2030، وهذا يعني معدل نمو سنوي مركب بنسبة 6.15 ٪ خلال السنوات المقبلة. وصرّح ترمب مرارًا وتكرارًا بأنه يعتزم فرض مثل هذه الرسوم، لإعادة إنتاج الأدوية في الخارج إلى الولاياتالمتحدة، إلا أنه من المستبعد أن تحقق الرسوم الجمركية هذا الهدف، لأن نقل الصناعات التحويلية سيكون مكلفًا للغاية وسيستغرق سنوات، ولم يتضح بعدُ مدة التحقيق أو موعد سريان الرسوم الجمركية المخطط لها، وقد بدأ الرئيس الأمريكي التحقيق بموجب المادة 232، والتي استخدمها سابقًا في صناعات أخرى مثل السيارات والأخشاب. وشدد ترمب في تصريحات للصحفيين يوم الاثنين الماضي، على أن الرسوم الجمركية على الأدوية ستُفرض "في المستقبل غير البعيد.. لم نعد نصنع أدويتنا بأنفسنا. شركات الأدوية موجودة في أيرلندا، وفي أماكن أخرى كثيرة، وفي الصين"، وفي حين أن بعض الأدوية تُصنع جزئيًا في الولاياتالمتحدة، إلا أن اعتماد أمريكا على الصين في الأدوية أثار قلقًا لسنوات، حيث اعتبره كل من الجمهوريين والديمقراطيين نقطة ضعف للأمن القومي، ولا تُنتج العديد من الأدوية إلا بعد أن تتم إحدى مراحل التصنيع على الأقل في الصين، وحتى قطاع الأدوية الجنسية العملاق في الهند يعتمد بشكل كبير على الصين، لأن المُصنّعين الهنود يحصلون عادةً على موادهم الخام من مصانع صينية. يُشكل فرض رسوم جمركية باهظة على الأدوية المنقذة للحياة مخاطر على حياة المرضى، وهذا بخلاف بعض أهداف ترمب الجمركية الأخرى، مثل الفولاذ والألمنيوم، حيث لا يتعرض الأمريكيون عمومًا لارتفاع الأسعار بشكل مباشر، وقد يواجه ترمب رد فعل عنيف إذا أدت الرسوم الجمركية على الأدوية إلى زيادات كبيرة في الأسعار أو نقص في الأدوية للمرضى، خاصة وأن نقص الأدوية في الولاياتالمتحدة بلغ مستوى قياسيًا في عام 2024، ويصرف الأمريكيون مليارات الوصفات الطبية سنويًا، بالإضافة إلى شراء الأدوية التي تُصرف بدون وصفة طبية، مثل شراب السعال، وتايلينول وهو مسكن للألم وخافض للحرارة. وفي أحدث تحرك، وقع ترمب أمرًا تنفيذيًا يحدد سلسلة من الإجراءات التي تهدف إلى خفض أسعار الأدوية، بما في ذلك مساعدة الولايات على استيراد الأدوية من كندا، والهدف من هذه الواردات بالطبع هو توفير أدوية أرخص، لكن الرسوم الجمركية قد تعني أن هذه الواردات لن تُوفر نفس الوفورات التي كانت تُحققها في الماضي، وإذا تسببت الرسوم الجمركية على الأدوية في ارتفاع أسعار أي دواء، فقد يستغل الديمقراطيون هذه القضية في انتخابات التجديد النصفي العام المقبل، وربما يحاولون تقويض شعبية ترمب بين ناخبي الطبقة العاملة. واستغل الديمقراطيون هذه القضية بالفعل، ففي رسالة أُرسلت إلى مسؤولي ترمب الأسبوع الماضي، كتبت مجموعة من المشرعين، بقيادة النائبين دوريس ماتسوي من كاليفورنيا وبراد شنايدر من إلينوي، أن "الرسوم الجمركية المتهورة" على الأدوية تُهدد بإلحاق الضرر بالأمريكيين، وأضاف المشرعون: "إن انقطاع إمدادات المنتجات الطبية الحيوية من شأنه أن يضر بشكل لا مفر منه بالمرضى في الولاياتالمتحدة، ويجبر المزودين على اتخاذ قرارات تقنين مستحيلة، وقد يؤدي حتى إلى الوفاة مع تأخر العلاجات، أو استبدال الأدوية والمنتجات الأكثر فعالية ببدائل أقل فعالية". من جهته، أفاد كوش ديساي، المتحدث باسم البيت الأبيض، في بيان يوم الاثنين، أن "الرئيس ترمب كان واضحًا منذ فترة طويلة بشأن أهمية إعادة التصنيع إلى الداخل وهو أمر بالغ الأهمية للأمن الوطني والاقتصادي لبلدنا"، والحقيقة، أن استهداف الصناعات الدوائية يُهدد بتأجيج العلاقات مع حلفاء واشنطن الكلاسيكيين مثل الاتحاد الأوروبي والهند، اللتين تعتمد اقتصاداتهما على صادرات الأدوية إلى الولاياتالمتحدة، ويخشى مسؤولو هذه الدول من أن تدفع الرسوم الجمركية على الأدوية الشركات إلى التراجع عن استثماراتها، مما يؤدي إلى خسارة الوظائف والمصانع وإيرادات الضرائب. وإلى جانب السيارات والإلكترونيات، تعد الأدوية واحدة من فئات السلع التي تستوردها الولاياتالمتحدة أكثر من غيرها، قياساً بالقيمة، ومن المرجح أن تضيف الرسوم الجمركية على الأدوية عشرات المليارات من تكاليف الاستيراد إلى صناعة قوية تعتمد على سلسلة توريد عالمية معقدة، ويُنتج معظم الأدوية المُستهلكة في الولاياتالمتحدة في أكثر من منطقة حول العالم، حيث تعالج مصانع في بلدان مختلفة مراحل مختلفة من العملية، ومن المرجح أن يتم تصنيع الأدوية باهظة الثمن الحاصلة على براءة اختراع، مثل دواء إنقاص الوزن والتخسيس والتخلص من الكرش "ويجوفي"، في أوروبا أو الولاياتالمتحدة. تنتج الصينوالهند معظم الأدوية الجنسية الأرخص ثمناً، والتي تُمثل الغالبية العظمى من الوصفات الطبية في الولاياتالمتحدة، وعلى سبيل المثال، تُنتج مصانع هذين البلدين تقريباً جميع الإمدادات العالمية من المكونات الفعالة من مسكن الألم إيبوبروفين، والمضاد الحيوي سيبروفلوكساسين، وفقاً لشركة كلاريفيت، وهي شركة مُزودة لبيانات القطاع الدوائي، وتعد الأدوية أحدث القطاعات المستهدفة بالتعريفات الجمركية، وقد فرضت بالفعل رسوم بنسبة 25 % على واردات الصلب والألمنيوم والسيارات، كما بدأت إدارة ترمب تحقيقات بموجب المادة 232، وهي تحقيقات تتعلق بمخاوف الأمن القومي، ويجب استكمال التحقيقات بموجب المادة 232 خلال تسعة أشهر. تضغط صناعة الأدوية على إدارة ترمب لتطبيق التعريفات الجمركية بشكل تدريجي أو إعفاء أنواع معينة من المنتجات، مثل الأدوية المعرضة لخطر النقص أو تلك التي تعتبر أساسية، مثل المضادات الحيوية، وقال جون مورفي، رئيس مجموعة تجارية تمثل مصنعي الأدوية الجنسية، في بيان يوم الاثنين: إن الرسوم الجمركية "لن تؤدي إلا إلى تضخيم المشاكل الموجودة بالفعل في السوق الأمريكية للأدوية بأسعار معقولة"، وستدفع شركات الأدوية التي تستورد منتجات أو مكونات إلى الولاياتالمتحدة هذه الرسوم الجمركية، ومن المرجح أن يحاول العديد من هؤلاء المصنّعين تحميل أصحاب العمل والبرامج الحكومية، مثل برنامجي ميديكير وميديكيد، بعض هذه التكاليف الإضافية التي تغطي معظم تكاليف الأدوية الموصوفة للأمريكيين، وهذا سيؤثر في نهاية المطاف على المرضى. قد تُسبب الضرائب نقصًا في بعض الأدوية الجنسية الأرخص ثمنًا، نظرًا لقرب أسعارها من تكاليف الإنتاج، وربما يُجبر المصنعون ذوو الهوامش الضئيلة على تقليص الإنتاج أو إيقافه، والحقيقة، أنه لا يوجد شعور بالقلق إزاء النقص في الأدوية ذات العلامات التجارية الرائدة، والتي تتمتع بهامش ربح مرتفعة، الأمر الذي يمكنها من امتصاص التعريفات الجمركية، وقد يواجه المرضى الذين يُلزمهم تأمينهم الصحي بدفع مبلغ مُستقطع أو نسبة مئوية من سعر الدواء تكاليف إضافية أعلى لبعض الأدوية، وربما يضطرون أيضًا إلى دفع مبلغ إضافي أعلى إذا أجبرهم النقص على تغيير الأدوية إلى بدائل أخرى أكثر تكلفة، وفي السنوات المقبلة، قد يواجه المرضى أقساط تأمين صحي أعلى. في بعض الحالات، تُثني الاتفاقيات التعاقدية والغرامات المالية الباهظة المصنّعين عن رفع الأسعار بشكل حاد، فمع المنتجات الحاصلة على براءات اختراع، يحقق المصنّعون هوامش ربح ضخمة، ما يجعل مبيعاتهم مربحة للغاية حتى مع تحملهم تكلفة الرسوم الجمركية، وتتوقع بعض شركات الدواء الأمريكية أن تتحمل تكلفة الرسوم الجمركية، وربما تعوض ذلك من خلال خفض إنفاقها البحثي أو تسريح عدد من موظفيها، في المقابل، يعتقد ترمب بأن رسومه الجمركية ستدفع شركات الأدوية إلى إعادة إنتاجها الخارجي إلى الولاياتالمتحدة، وفي الأسابيع الأخيرة، أعلنت العديد من أغنى شركات صناعة الأدوية، مثل: إيلي ليلي، وجونسون آند جونسون، ونوفارتس، عن خطط لإنفاق مليارات الدولارات لبناء مصانع جديدة في الولاياتالمتحدة. لكن، الرسوم الجمركية لا تكفي وحدها لإعادة معظم إنتاج الأدوية إلى الولاياتالمتحدة، إذ تزداد العقبات صعوبةً خاصةً فيما يتعلق بالأدوية الجنسية الأساسية، فبناء مصنع جديد يستغرق سنوات، وحتى نقل الإنتاج إلى مصنع أمريكي قائم قد يكون مكلفًا للغاية، فتكاليف العمالة وغيرها من تكاليف الإنتاج أعلى بكثير في الولاياتالمتحدة وإذا كانت إدارة ترمب تريد بناء القدرة التصنيعية في الولاياتالمتحدة، سواء في مجال التكنولوجيا الطبية أو في مجال الأدوية، فإن الإجابة الأكثر فعالية ليست التعريفات الجمركية، بل السياسة الضريبية. تستهدف إدارة ترمب أيرلندا، حيث تمتلك جميع شركات الأدوية الأمريكية الكبرى تقريبًا مصانعها، ويعود تاريخ بعضها إلى عقود، ومن أبرز عوامل الجذب في أيرلندا لهذه الصناعة المزايا الضريبية التي تقدمها، إذ تُحول بعض شركات الأدوية أرباحها إلى هناك لخفض فواتيرها الضريبية الإجمالية، وفي الشهر الماضي، هاجم ترمب أيرلندا قائلاً: "استولت على شركاتنا الدوائية"، وعلى خطى الرئيس، صرح وزير التجارة هوارد لوتنيك بأن أيرلندا تُدير "عملية احتيال ضريبي تستغلها شركات الأدوية الأمريكية.. ويجب أن ينتهي هذا". بعض من أكبر الأدوية الرائجة في الصناعة، دواء السرطان "كيترودا" وحقن البوتوكس المضاد للتجاعيد، وهي تنتج جزئيًا في أيرلندا، وتستورد الولاياتالمتحدة من أيرلندا منتجاتٍ دوائيةً أكثر من أي دولة أخرى، من حيث قيمتها، وهذا يجعل المسؤولون الأيرلنديون يخشون أن تدفع الرسوم شركات الأدوية إلى الانسحاب من استثماراتها في البلاد، وقد تتردد شركات الأدوية في الخضوع لعملية مكلفة ومزعجة لاقتلاع عملياتها، لا سيما في ظل استمرار حالة عدم اليقين بشأن مدة استمرار رسوم ترمب الجمركية، وتاريخياً، تم إعفاء الأدوية من الرسوم الجمركية بموجب اتفاقية منظمة التجارة العالمية التي تهدف إلى ضمان حصول المرضى على الأدوية الحيوية، وقد استثنيت الأدوية في معظمها من جولة الرسوم الجمركية العالمية التي أعلن عنها ترمب هذا الشهر، ثم أجل تطبيقها جزئيًا لمدة 90 يومًا، بينما خضعت الأدوية المستوردة من الصين لرسوم جمركية، بنسبة 10 % في البداية، ثم 20 % لاحقًا.