(لا أحب قراءة الروايات التي تحمل لي شيئًا من واقعي أو التي تعبر عنه بأي شكل من الأشكال)، بتلك العبارة باغتتني إحدى صديقاتي أثناء حوارنا الثقافي العميق عن الكتب والقراءة، أكملتْ حديثها بكل قناعة، وربما بأسى وقالت لي: "أنا أيضًا لا أحب القراءة لكُتاب مدينتي لأنهم قد يكتبون عنها، ويصفون شوارعها، ووقائعها وأماكنها، وحينها سيثيرون ذاكرتي التي غالبًا أتجاهلها، سيتحدثون ربما عن حارتنا وعاداتنا وبيوتنا وأحلامنا، وأنا لا أريد العودة إلى أشيائي الناقصة وحكاياتي المبتورة، وواقعي المفروض، لا أريد السفر عبر الزمن، ولا التفاعل مع أحداث الحكايات التي تصف الواقع حتى وإن كانت من خلال شخصيات أخرى"، في الحقيقة أن فكرها قد سبب لي نوعًا من الذهول والتعجب، ربما لاعتقادي بأن السرد الروائي الواقعي المتصل بحقائق الناس سيكون ضمادًا لهم فهو يعبر عنهم وعن تفاصيلهم ونجاحاتهم وخسائرهم، وذلك لأن الرواية الواقعية تستمد أحداثها وشخوصها من الحياة الحقيقية للبشر، ومن همومهم، ومن ظروفهم حتى وإن دُمج معها الخيال تظل مرآة لإبراز الحقائق، لذلك تعد العلاقة بين السرد الروائي والواقع علاقة وثيقة جدًا، يصورها الكاتب من خلال مهاراته الأدبية، وقد بدأ ظهور الرواية الواقعية في الأدب العربي في القرن العشرين، حيث استخدم الأدباء والشعراء تلك الظروف الصعبة المنبثقة من مجتمعاتهم كأداة في الأدب، لأن الرواية الواقعية تعد وسيلة فعالة لتمثيل المجتمع والعادات والبيئة بطريقة موضوعية، وأيضًا هي تحمل نوعًا من الاحتجاج على بعض الأفكار الجمعية والوصاية والمعتقدات، فالرواية الواقعية تثير وجدان القارئ، وتحرك مشاعره لأنها تنقل الصراع الذي يعيشه الإنسان في بيئته، وتناقش القضايا التي تلامس عمقه الإنساني مثل: الفقر، واليتم والظلم والفشل والصراعات الطبقية، وغيرها من القضايا الوجدانية مثل: الحب والزواج والطلاق دون أي محاولة لتزييف أو تجميل الواقع، والرواية الواقعية غالبًا لم تكن فقط لتجريد المجتمع أو إظهار عيوبه، ولكن كان لها هدف إيجاد الحلول ومناقشة المشكلات، والدعوة إلى الإصلاح، كما أنها وسيلة مثلى لإيصال صوت الأفراد، ولكن اتضح لي مؤخرًا أن لها جانب عكسي وسلبي لدى بعض الناس، فهناك من لا يجدها وسيلة للتعبير عن النفس بل يُعدها مرآة موجعة للواقع، وهذا يعود إلى أنماط الشخصيات وأيضًا إلى الاتجاهات والأبعاد المختلفة في فنون قراءتها وكتابتها أيضًا، في كل الأحوال تظل الرواية الواقعية فن سردي متفرد، ومن أهم وسائل التعبير الحقيقي عن قضايا المجتمع.