يوسف المحيميد روائي سعودي صاحب تجربة طويلة في الكتابة، صدر له العديد من الروايات المترجمة إلى عدد من اللغات بعد أن حازت جوائز. المحيميد في هذا الحوار يتحدث عن روايته الأخيرة "غريق يتسلى في أرجوحة". * بدايةً: يوسف المحيميد بعد سبع روايات تقريبا وفوزه بعدد من الجوائز وترجمت رواياته إلى عدة لغات، إلى أين يمضي بمشروعه الروائي؟ ما هي طموحاتك على المستوى الفني التي لم تحققها بعد؟ - حين بدأت كتابة الرواية بالأعمال المبكرة "لغط موتى" و"فخاخ الرائحة".. لم أكن أتوقع أن أحظى بأكثر من ناشر محترم يقدّر ما أكتب، دون الحلم بجوائز وترجمات وقراء، وأخشى أن أقول لك انني مازلت أفعل ذلك حتى مع أعمالي الأخيرة، أكتب كي استمتع، كما يفعل ممثل أو لاعب كرة قدم، وربما في الكتابة يزداد الأمر غرابة وتعقيداً، كأن أكتب وطموحي أن أبلغ أعلى درجات المتعة، فلدي يقين راسخ، حين لا تستمتع بما تفعل، يجب أن تتوقف فوراً، ولعل من المتعة أيضاً أن تحقق النجاح تلو النجاح، على سبيل المثال، حينما ألتقط خيطا سرديا ما، أو شخصية روائية ما، تنتابني سعادة كبيرة، وتزداد هذه السعادة حتى تبلغ المتعة حينما أتتبع تاريخه الشخصي المتخيَّل، وقد أضطر إلى المشي كما يمشي، على الأرصفة ذاتها، وأعبر الشوارع التي عبرها من خلال خط السرد الذي نسجته له، وقد أستخدم الأدوات الشخصية ذاتها التي يستخدمها، وأشرب من فنجان قهوته، وهكذا.. هذه الخطوات البسيطة واللحظات العادية ليست مضنية كما يظن البعض، بل هي ممتعة ومسلِّية. * عنونت روايتك الأخيرة "غريق يتسلى في أرجوحة" بعنوان يتسم بالشاعرية.. لماذا؟وما هي وجهة نظرك بخصوص اللغة الشاعرية في الرواية سواء في العنوان أم في داخل النص؟ - تعنيني الشاعرية في النص، سواء على مستوى اللغة، أو حتى على مستوى الحدث والموقف والشخصية، كثير من الشخصيات الروائية التي اكتسبت مجداً وشهرة، تجد في تفاصيل حياتها وتصرفاتها شاعرية لافتة، أما إذا كان سؤالك عن اللغة فحسب، فأعتقد أن اللغة سواء عبر المفردة أو العبارة، أن تكون شاعرية أو تقريرية أو غير ذلك، تبعاً للسياق السردي، وكذلك الأمر بالنسبة للعنوان، حيث يعتمد ذلك على نوعية النص نفسه، ومستوى لغته المستخدمة، فمن الصعب اختيار عنوان شاعري لنص تقريري بدرجة كبيرة. * لاحظت خلال روايتك دقة في تحديد الأماكن (حتى أثناء زيارة فيصل لقبر أبيه) ودقة في أسماء الشخصيات الحقيقية.. هل كان هذا لإضفاء طابع واقعي على أحداث الرواية؟ وما هي حدود خيال الروائي في مثل هذه الحالات؟ - دعنا نتفق أولاً على ماهية خيال الروائي، فأعتقد أن الإيهام بالواقع هو مخيلة بشكل أو بآخر، فليس بالضرورة – كما أرى – أن الخيال يعني التضاد مع الواقع، أو الأفعال فوق الواقعية، وإنما هو خلاف الوقائع، أي ما لم يحدث إلا في مخيلة الروائي حتى ولو كان حقيقياً كفعل أو حدث؛ ولأن مثل هذه الرواية واقعية، فمن الطبيعي أن يتم الاهتمام بمعظم الأفعال التي تكرِّس الإيهام بالواقع. * بعض الحكايات الجانبية في الرواية (مثل حكاية الجد الداغستاني) قد تجذب القارئ أكثر من الحكاية الرئيسية؛ كيف تفسر هذا؟ - أعتقد أن ذلك أمر إيجابي؛ لأن كثيراً مما يثقل الروايات من حكايات فرعية، هي في الغالب حكايات زائدة عن حاجة السرد، وغير ذات قيمة، أما مسألة أيها أكثر جاذبية، الحكاية الأساسية للنص، أو الحكايات الفرعية، فالأمر يعتمد على ذائقة القارئ واهتماماته، فضلاً عن أن الحكايات القصيرة والجانبية تكون عادة مكثفة وبلا تفاصيل، مما يجعلها أكثر تماسكاً وتشويقاً، فضلاً عن أن الحكايات التاريخية المتخيلة، كحكاية الجد الداغستاني، تكون أكثر تشويقاً لما فيها من فضاء متخيل وغير معروف في الغالب. * تعاقب صوتان سرديان في سرد الحكاية "فيصل" و"ناهد" في تبادل متناغم وجميل ثم فجأة انقطع هذا في "الفصل السادس" ليتدخل الراوي في السرد.. لماذا؟ وهل أفسد هذا التدخل جمالية ذلك التناوب؟ - لا طبعاً، فالمشاهد السردية في ذلك الفصل كانت أعلى من طاقة سرد أحدهما له، كانت بحاجة إلى أن تروى بطريقة علوية مختلفة، وفي نظري كسارد لم يفسد ذلك الفصل جمالية التناوب بين الشخصيتين المحوريتين، وإنما جاء لضرورة سردية، وهو في النهاية اختيار السارد وذائقته، قد يتفق مع ذائقة قارئ، ويختلف مع آخر. * يلاحظ القارئ للرواية أن هناك جانبا من المعلومات التاريخية الدقيقة التي تتطلب بحثا وتثبتا.. حدثنا عن الجانب البحثي الموازي للعمل السردي بما يتضمنه من خيال ولغة وبناء سردي وغيرها، كيف قمت بهذا الجانب البحثي في روايتك؟ وهل هو جانب مهم في الرواية دائما؟ - في كل رواياتي لا بد من البحث أولاً، قبل الجلوس على طاولة الكتابة، بل وأحياناً حتى أثناء الكتابة، كالقراءة في موضوع تاريخي ما، أو الاطلاع على خرائط، أو على صور فوتوغرافية قديمة، أو مقاطع أفلام وثائقية، من أجل الوصول إلى روح مكان ما في حقبة زمنية ما، ففي هذه الرواية كان لا بد من الاطلاع على حركة المهاجرين من بلاد داغستان أثناء الحرب الأهلية هناك، وخلال الحرب العالمية الأولى، وكذلك الاطلاع على تفاصيل غرق جدة وأحداثها قبيل سنوات، وغيرها من الأحدث التي أصبحت أحداثاً عامة من الماضي. ما أريد قوله، أن العمل البحثي ليس مضنياً، وإنما ممتعاً للغاية، لأنه يقودني أحياناً إلى مناطق جديدة لم أكن أقصدها، أو أبحث فيها. وبالطبع هذا البحث والاكتشاف هو أمر مهم للرواية، يمنحها المزيد من المعرفة، وفداحة الواقع، والصدق الفني، وقد يقود إلى تغيير مسارات الرواية أحياناً، أو يتحكم بمصائر الشخصيات الروائية. * هل كانت سيرة حياة "فيصل" تلخص تاريخ السينما في السعودية؟ لماذا إذن مر الروائي سريعا على بعض الجوانب المهمة في هذا التاريخ؟ -لا طبعاً، الرواية تتخذ من السينما ظلالاً، وتتحدث عن مخاض، وعن معاناة شاب يحلم بأن يكون مخرجاً سينمائياً في بلاد لا تعترف بالسينما، ولا بالفنون، ولا تقدم الرواية، ولا تدَّعي أيضاً بأن تقدم مرجعاً تاريخياً للسينما السعودية، وإلا احتجنا أن نعود إلى البدايات مع ظلال الصمت والمخرج الرائد عبدالله المحيسن.. وهكذا. لكن الرواية ليست معنية بذلك، ليست مرجعاً فنياً، ولا وثيقة اجتماعية أو سياسية، الرواية عمل أدبي يستلهم دائماً الفنون والآداب المختلفة، تستفيد من الواقع الاجتماعي والسياسي، لكنها ليست كتاباً نقدياً للفنون والآداب، ولا دراسة اجتماعية أو أنثروبولوجية أو سياسية. * دائما ما تكون الحكاية الرئيسية في كثير من الروايات العربية "قصة حب".. لماذا؟ وعلى اعتبار أنه ليس هناك حكاية رئيسية في الرواية.. لماذا إذن يحضر الحب دائما؟ - ولماذا يغيب؟ أرى أن العالم كله حكاية حب رائعة في نظري، أرجو ألا تكون – يا عبدالله – ممن يتوجس من الحب باعتباره فعلاً نجساً يجب التطهر منه، صحيح أن العالم يحمل حكايات وهموما ومتاعب أخرى، لكن الحب بجميع أشكاله هو محورها في الغالب، الحب هو جزء رئيس من كل هذه الهموم والمتاعب، الحب بمعناه الشامل، هو الشغف بكل شيء، الشغف بالإنسان، بالمهنة، بالكائنات، بالأشياء الصغيرة، أذكر مثلاً شغف شخصية بدوية حقيقية بناقته في كتاب (البدوي الأخير)، أظن أن العالم يصبح ناقصاً بلا حب وشغف ولهفة. * في كثير من الروايات تحضر الرواية والسينما والشعر وما إلى ذلك فكثيرا ما يكون البطل إما روائيا أو شاعرا أو سينمائيا وهكذا.. ويستعرض ثقافته من خلال ذلك وغالبا يكون هناك عمل فني ما أثر فيه.. ما تفسيرك لهذا؟ اسمح لي أن أخمن هنا بعض الاحتمالات.. هل يعود هذا لأن الروائي أصلا محاط بكل هذا فهو بالتالي يسربها بوعي أو دون وعي إلى شخصياته؟ هل يحقق الروائي طموحه بالتأثير على القارئ من خلال شخصياته ؟ قرأت أكثر من خمس روايات عربية مؤخرا كلها تشترك بهذا وتستدعي أسماء روايات وروائيين أجانب إلى النص.. لماذا؟ وإذا كانت الرواية انعكاسا للواقع هل السينما حاضرة ومؤثرة في الواقع إلى هذا الحد؟ - صحيح، معك حق، ليست بالضرورة أن تكون الرواية قريبة من هذه الفنون والآداب، ومن جهة أخرى لا يعيب الرواية أن تستثمر شخصيات ذات علاقة بالآداب والفنون، بوصفها أعمالاً إنسانية، وفيما يخص روايتي، وهو المهم هنا للحديث عنه، أجد السينما في السعودية أمراً مهماً، فهي كنشاط إنساني يومي من حق المواطن أن يستمتع به، كما يحدث في كل دول العالم، خاصة أن السينما مصدر مهم للمعرفة والثقافة، مثلها مثل المسرحية، والمتحف، والجاليري... إلخ. فالرواية هنا هي انعكاس للواقع، وليس بالضرورة أن حضور الموضوع وتأثيره في الواقع هو ما يتم تناوله، قد يكون غيابه أكثر أثراً في الواقع، فغياب السينما أكثر تأثيراً من حضورها في هذا الواقع، هذا الغياب الذي يرجع لأسباب اجتماعية أو دينية، هو يعكس رؤية هذا المجتمع، أو يعكس تحديداً بعض التيارات المتنفذة داخل هذا المجتمع، بالتالي تناوله أمر يعني تناول تناقضات هذا المجتمع وهمومه. * تتعرض في رواياتك دائما لأحداث حقيقية مثل "أزمة الخليج" و"حادثة جهيمان" و"كارثة جدة" وغيرها.. هل من مهام الروائي بشكل عام أن يؤرخ لمجتمعه؟ هل تمتلك هذا الهاجس؟ - ليس تأريخاً، ولست معنياً بكتابة الرواية التاريخية، لكنني أسعى لرصد الواقع المعيش، بكل ما فيه من أحداث ووقائع اجتماعية وسياسية، وحروب وكوارث طبيعية، وتأثير ذلك على مصائر الشخصيات، يهمني أن تكون شخصياتي جزءاً من الواقع، تتحرك أقدارها ومصائرها تبعاً لهذه الأحداث الوقائع، تؤثر فيها، وتتأثر بها.