الأمن المُجتمَعي حقق استقلال البلاد وأمنها من التهديدات الخارجية تحقيق العدل والمساواة بين أفراد المجتمع السعودي التوافق والالتزام بالثوابت الوطنية السعودية استتباب الأمن أسهم في بنية مجتمع الدولة السعودية الأولى شكّلت قضيّة تحقيق الأمن المُجتمَعي الشّامل في الجزيرة العربيّة واحدة من أهمّ القضايا التي اهتمّت بها الدَّولة السُّعوديّة الأولى (1139-1233ه)؛ لِما كان لها من ضرورة اجتماعيّة، وسياسيّة، واقتصاديّة، يوجبها السّعي لبناء الدَّولة السعودية العصريّة الحديثة. وهو الأمر الذي تجلّى واضحاً في جهود الإمام محمد بن سعود وجهود الأئمة والملوك من بعده، وقد تحقّقت في تلك الأثناء مسيرة البناء الآمن، والتّطوير، والازدهار، والمجد التّليد للدَّولة السُّعوديّة الأولى، حتّى وصلت الدَّولة في عهده إلى مصافّ الدّول المُتطوّرة، سياسيّاً، واقتصاديّاً، وثقافيّاً، وعسكريّاً، واجتماعيّاً. تنطوي تجربة قيام الدَّولة السُّعوديّة الأولى على مواطن قوّة مُتعدّدة، تُسهم في الكشف عن آليات بِناء الدَّولة العصريّة الحديثة، في مُجتمعٍ تسوده تنظيمات اجتماعيّة تقليديّة مُتناحرة ومتصارعة، الأمر الذي جعل الدَّولة السُّعوديّة تتصدّر التّجارب العالميّة في مسألة الرّبط بين التّراث الأصيل، والحداثة العصريّة في الوقت نفسه. وفي الوقت الذي تُعدّ فيه المملكة العربيّة السُّعوديّة اليوم تتصدّر التّجارب العالميّة في الجمع بين الأصالة والمُعاصرة، فإنَّ في ذلك ما يُساعدها أيضاً في تجاوز الصّعاب والتّحدّيات التي تُجابهها اليوم على المستويات المحلّيّة، والإقليميّة، والعالميّة، ولم تأتِ رؤية (2030) السُّعوديّة، برعاية سيّدي خادم الحرمين الشّريفين؛ الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سُعود، ووليّ عهده الأمين صاحب السّمو الملكي؛ الأمير محمّد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سُعود -حفظهما الله-، إلّا في هذا السّياق الحضاريّ. أهمّيّة الأمن المُجتمَعيّ في الدَّولة السُّعوديّة الأولى: كان الأمنُ المُجتمَعيّ من أهمّ حاجات المُجتمع في الدَّولة السُّعوديّة الأولى، ودليلاً على الاستقرار الاجتماعيّ، والسّياسيّ، والازدهار الاقتصاديّ والثّقافيّ في الدَّولة، وكانت وظيفته تحقيق سلامة الأفراد والجماعات من أهل الحاضرة والبادية، وأمنهم من الأخطار الدّاخليّة المُتمثّلة في انتشار الفوضى، والتّهديدات من بعض الأفراد أو الجماعات التي تُمارس القتل، وقطع الطّرق، والتّخريب والسّرقات. وحقّق الأمن المُجتمَعيّ في الدَّولة السُّعوديّة الأولى أيضاً استقلال البلاد وأمنها من التّهديدات الخارجيّة المُتمثّلة بالتّهديدات العسكريّة من قِبل القِوى المحلّيّة أو الأجنبيّة. ونتيجة لنجاحِ حُكّام الدَّولة السُّعوديّة الأولى في تأمين المُقوّمات والرّكائز التي أسهمت في إرساء قواعد الأمن المُجتمَعيّ، بُني المُجتمع السُّعوديّ في طوره الأول على غرار بناء المُجتمعات العصريّة الحديثة، فشكّل الأمن المُجتمَعي عاملاً مُهمّاً في تقدّم الدَّولة ورقيّها وازدهارها، وعوامل وجودها، حيث انعكس هذا الأمن والأمان على سلوكيّات الأفراد ومُنجزاتهم الحضاريّة؛ بسبب الطّمأنينة التي هيمنت على نفوسهم، وشكّلت حافزاً للعمل والإبداع، والاستقرار، والحفاظ على الهويّة الوطنيّة السُّعوديّة. مُقوّمات الأمن المُجتمَعي في الدَّولة السُّعوديّة الأولى تحقّق الأمن المُجتمَعي في مُجتمع الدَّولة السُّعوديّة الأولى بالتّوافق والالتزام بالثّوابت الوطنيّة السُّعوديّة المُثلى التي وَحَّدت النّسيج الاجتماعيّ والثّقافيّ الذي أبرز الهويّة الوطنيّة في مُجتمع الدَّولة السُّعوديّة الأولى وَحَدَّدَ ملامحها، فقد نجح حُكّام الدَّولة السُّعوديّة الأولى في توجيه الطّاقات السُّعوديّة الخلاقة للوصول إلى الأهداف والغايات الوطنيّة الكُبرى التي تندرج في إطار القِيَم والمُثل العُليا لتعزيز الرّوح الوطنيّة لدى السُّعوديين، وتحقيق العدل، والمُساواة، وتكافؤ الفرص، وتكامل الأدوار في مُجتمع الدَّولة. ومن الجدير بالذِّكر أنَّ استتباب الأمن المُجتمَعي أسهم في تحقيق الانصهار الاجتماعيّ في بُنية مُجتمع الدَّولة السُّعوديّة الأولى، ممّا أرسى قواعد العدل والمُساواة في الحقوق والواجبات. وقد تحقّق الأمن المُجتمَعي في الدَّولة السُّعوديّة الأولى من خلال ثلاثة أدوار، هي: 1 -الدّور الوِقائي:وتمثّل باتّخاذ حُكّام الدَّولة السُّعوديّة الأولى في سياستهم مجموعة من التّدابير التي تمنع الأفراد والجماعات القبليّة وغيرها من الخروج على قواعد الضوابط الاجتماعيّة والقانون في الدَّولة، وتُسهم في إحلال الطّمأنينة بين الأفراد وقبائلهم في المُجتمعِ من جهة، وبين هؤلاء ونظام الدَّولة السُّعوديّة الأولى من جهة ثانية. 2 -الدّور العِقابيّ:وتمثّل بأدوار ومهام أجهزة العدالة الجنائيّة من محاكم الدَّولة السُّعوديّة الأولى وعناصرها بالتّصدّي لكلّ من يخرج على القواعد الاجتماعيّة العامّة، أو يتجاوز مبادئ النّظام العامّ للبلاد، بحيث يُقدَّم مُباشرة للعدالةِ؛ لينال جزاء ما كسبت يداه، بِغَضِّ النّظر عن مكانته الاجتماعيّة، أو السّياسيّة، أو موقعه، وتحفل سجلّات الدَّولة السُّعوديّة الأولى ووثائقها بالعديد من القضايا الجنائيّة التي تمَّ فيها ردع بعض الأفراد أو القبائل نتيجة خروجهم على قانون الدَّولة العام، وإلحاق الأذى والضّرر بالآخرين، سواء من أفراد المُجتمع السُّعودي أو من غيره الموجودين داخل حدود الدَّولة السُّعوديّة الأولى. 3 - الدّور العلاجي: وكان من خلال أدوار سياسة التّسامح الاجتماعي، وحُسن الجوار، والتّأهيل، والتّوجيه بالتّصدّي للمشكلات الأمنيّة، والحَدِّ من آثارها السّلبيّة على مُجتمع الدَّولة السُّعوديّة الأولى، بتأهيل الخارجين على القانون وإرشادهم، بما يُساعدهم للعودة إلى الانخراط في المُجتمع السُّعودي بشكل سليم وفعّال، وقد تمثّل هذا الدّور بتوجيه رؤساء القبائل، وأمراء الأقاليم في الدولة السعودية الأولى بعدم التعدي على قوافل الحج والسابلة والبريد. وظائف الأمن المُجتمَعي حقّق الأمنُ المُجتمَعيُّ وظائف مُتعدّدة في مُجتمع الدَّولة السُّعوديّة الأولى، من أهمّها: 1-العدل ارتبط تحقُّق الأمن المُجتمَعي بمفهوم العدل ارتباطاً وثيقاً، ولا سبيل للأمن دون العدل عند حُكّام الدَّولة السُّعوديّة الأولى، حيث كان دوره في بُنية المُجتمع السُّعوديّ تنظيم العلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة بين النّاس، بإعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه، وعدم التّمييز بينهم وَفقاً للهوى، أو المصلحة الشّخصيّة، أو المكانة الاجتماعيّة، أو الدّور السّياسيّ. وبما أنَّ الدَّولة السُّعوديّة منذ نَشأتها جعلت القُرآن الكريم والسُّنّة النّبويّة الشّريفة دستورها، وطبّقته واقعاً عمليّاً، فإنَّ القُرآن الكريم دعا إلى الالتزام بالعدالةِ؛ لأنّها تُعدّ من خصائص النِّظام الاجتماعيّ، والتي تؤدّي إلى الحفاظ على الأمن المُجتمَعيّ. وقد عملت الدَّولة السُّعوديّة الأولى، من خلال أجهزتها الأمنيّة والرّقابيّة والعدليّة، بمُتابعة واجباتها فيما يتعلّق بتحقيق العدل بين أفراد المُجتمع السُّعودي، وضمان حُريّات الأفراد، ورغد حياتهم المعيشيّة، فلم تترك فيهم عاجزاً متروكاً، أو ضعيفاً مُهملاً، أو فقيراً بائساً. وتطبيقاً لذلك فقد تنبّه الإمام محمد بن سعود لأهمّيّةِ تحقيق العدل وفرضه مُنذ تأسيسِه للدَّولة السُّعوديّة الأولى سنة (1139ه) بهدف الحفاظ على استقرار المُجتمع وبقاء الدَّولة، المُساواة الاجتماعيّة: 2 -المساواة الاجتماعية: لقد استوجب تحقيق المُساواة الاجتماعيّة في الدَّولة السُّعوديّة الأولى أن لا تبقى حقوق الفرد والجماعة حِكراً على فردٍ دون آخر، أو مجموعة دون أخرى، بلْ هي للجميع وبالتّساوي والعدل، يُقدَّم الجميع على قَدم المُساواة أمام القانون وأمام المُجتمع، ولهم الحقّ في التمتّع بحمايةٍ مُتساوية ضدّ أيّ تمييز، أو اعتداء، أو ظُلم، فالجميع يولدون أحراراً، وهم سواسية في القيمة الإنسانيّة، وبالتّالي لهم جميعاً، دون استثناءٍ، الحقّ في التّمتّع بِمُقدّرات الدَّولة وخيراتها. 3- الحرية: كانت الحُريّة من أسمى أهداف حُكّام الدَّولة السُّعوديّة الأولى، وقد تمثّلت في حياة المُجتمع في عدّة مجالات اجتماعيّة عملت الدَّولة من خلال أجهزتها وقوانينها على مُراعاتها وتحقيقها؛ كحريّة إبداء الرّأي، والمشورة، والشّهادة بقولِ الحقّ. لقد منحت الحُريّة الفرديّة في المُجتمعِ السُّعوديّ الأول صاحبها حقوقاً وأهليّة، مكّنته من أداءِ واجباتِه تجاه أقرانِه، وتجاه الدَّولة على أتمِّ وجه، ومنحته قوّة وقدرة فعليّة على التّصرُّفات السّليمة المطلوبة منه، وكان ذلك إدراكاً من حُكّام الدَّولة السُّعوديّة الأولى بأنّه لا يُمكن للأمنِ المُجتمَعي أن يتحقّق في البلاد في ظلّ انتشار الفوضى، والفساد، والاستبداد، والقمع، وقطع الطُّرق، بلْ لا بُدّ له من بيئة اجتماعيّة، وثقافيّة، وقانونيّة حُرّة ونزيهة، تسودها ثقافة الحوار، والتّسامح، وحُسن الجوار، ويدعمها دستور قانوني يقف الجميع أمامه على قَدم المُساواة، بعيداً عن التّسلّط، والتّملّك، والظّلم. 4- قوّة النّظام: وقد تمثّلت في بناء المُجتمع السُّعودي الأول بالحزم في ضبط الأمور، وحلّ المشكلات، والسّعي في تصحيح الأخطاء ومُعالجتها، وعدم التّساهل في كلّ ما من شأنه أن يُزعزع الأمن، والاستقرار، والسّلم، وخاصّة أمن الأفراد والجماعات، وأمن طُرق الحجّ، والتّجارة، والمارّة. 5- أمن الأفراد: أولى حُكام الدَّولة السُّعوديّة الأولى تحقيق أمن الأفراد أولويّة في سياساتهم الدّاخليّة للمُجتمع، وقد تحقّق أمن الأفراد في بناء المُجتمع السُّعودي من خلال أمن الأُسرة السُّعوديّة؛ لِما كان له من دور وظيفي رائد في تعزيز التّرابط الأُسري الذي يجمع بين أفرادها، ويسود جوّها من الحُبّ، والتّعاون، والاطمئنان، ويُحقّق لأفراد الأُسرة الأمن النّفسيّ، والجسديّ، والعقديّ، والاقتصاديّ، والصّحيّ، ويُغذّي حاجاتهم النّفسيّة، ويُسهم في غرس القِيم الوطنيّة، والانتماء في نفوسهم، ممّا يُشعّ بدوره بالألفة، والمودّة، والتّعاون، والتّماسك على المُجتمع بأسره، فالمُجتمع السُّعودي ما هو إلّا مجموعة أُسَر سعوديّة مُترابطة في عقد اجتماعيّ، تتكوّن من أفراد يعيشون في كنف أُسرة واحدة. 6- الاستقرار الاجتماعي: وقد تمثّل تَحقيق الاستقرار الاجتماعي في دستور الدَّولة السُّعوديّة الأولى في تحقيق أمن الأفراد واستقرارهم في المكان الذي يُقيمون فيه من أيّ خوفٍ، أو خطرٍ يَلحق بهم وبأُسَرهم، وقبائلهم، حيث نجح الإمام محمد بن سعود في تحقيق أمن الأفراد، والأُسَر، والقبائل في الحاضرة والبادية في جميع أرجاء الدَّولة السُّعوديّة الأولى، وحَدّوا من انتشار ظاهرة الغزو القبلي، وقطع الطّريق؛ لِما يترتّب عنه من اعتداء كبير على حرّية وأمن الأفراد والجماعات، وسلب حقوقها، فحَلَّ الاستقرار الاجتماعي في المُجتمعِ السُّعوديّ الأول بدل الفوضى، وحَلَّ الأمنُ والأمانُ مكان الخوف والقلق، وأصبح النّاس ينعمون بحياةٍ هادئةٍ ملؤها المودّة، والتّعاون، والهدوءُ، ورغدُ العيش، وهناؤه. 7- أمنُ طُرق الحجّ والعُمرة: من أعظم مآثر الدَّولة السُّعوديّة الأولى عِمارة البيت الحرام، وخدمة الحرمَين الشّريفين، وضيوف الرّحمن، ولا شكّ أنّ هذا كان يَسبقه تأمين طريق الحجّ والعُمرة، فهي من أوّل الأولويّات. لقد كان التّعرُّض لقوافلِ الحُجّاج يُشكّل مَعلماً بارزاً في ظاهرة السّلب والنّهب لدى بعض القبائل البدويّة، ومصدراً رئيساً من مصادر حياتها الاقتصاديّة. أمّا عن هذا التعرُّض فتشيرُ مصادر تلك الفترة إلى أنَّ حِدّته قد خفّت بسبب أخذ الحكومة السُّعوديّة؛ الأولى، العهد على رؤساء البوادي بعد تخصيص المُرتّبات المالية لهم من بيت المال لمنعهم من نهب الحُجّاج وسرقتهم، أو التّعدّي على قوافلهم. فقد تمَّ تنظيم أمن وسقاية الحُجّاج المارّين بالدِّرعيّة عاصمة الدَّولة السُّعوديّة الأولى، وإطعامهم في المدن التي تقع على طريق قوافل الحُجّاج إكراماً للحجيج، وحفظاً لأمنهم وحياتهم من خلال بسط قانون الدَّولة بمنعِ التّعرُّض لقوافل الحُجّاج أثناء عبورهم أراضي الجزيرة العربيّة باتجاه المُقدّسات الإسلامّية، أو أثناء عودتهم منها إلى بلادهم الأمّ، وقد نَظَّمَ هذا الأمر مجموعة من الاتفاقات الدَّوليّة بين حُكّام الدَّولة السُّعوديّة الأولى مع الدُّول الأخرى، وقد أتاح هذا التّنظيم لحُجّاجِ بيت الله الحرام أن يَعبروا نجد ومناطق شبه الجزيرة التابعة للدَّولة السُّعوديّة الأولى دون أن يعترض سبيلهم أحد. وبناءً على مُعطيات التّحليل الأنثروبولوجي التّاريخي لقضيّة الأمن المُجتمعي في المجتمع السّعودي الأول؛ تبيّن أنَّ الأمن المُجتمَعي، وخاصّة أمن طُرق الحجّ والتّجارة، قد تحقّق مُنذ بداية عهد الإمام محمد بن سعود واستمرّ حتى نهايتها الدَّولة السُّعوديّة ، ثمَّ الدولة السعودية الثانية، سواء كان داخل الدَّولة أم خارجها، فقد تمَّ تأمين طُرق السّفر، والقوافل، وطُرق الحجّ، بعد أن كان المُسافر أو القاصد للحجِّ لا يأمن على نفسه، وعلى ماله من كثرةِ السّرقات والنّهب التي تتعرّض لها القوافل من قبل قُطّاع الطُّرق. فمُنذُ وصولِ الأمير مانع المريدي الحنفيّ، جدُّ الأسرة السُّعوديّة في حدود سنة (850ه) إلى الدِّرعيّة، وحُكّامها يتولُّون مَهمَّة حفظ الأمن في البلاد، وأهمَّها حماية قوافل الحجِّ والتّجارة الأحسائيَّة المارَّة حول بلدة الدِّرعيّة بالعارضِ وبلادِ نَجد، من قُطَّاع الطُّرق. ففي عهد الأمير مانع وابنه ربيعة، الذي تولى الحُكمَ بعده، أخذت الدِّرعيّة بالنموّ والتّوسّع، والاشتهار، والاستقرار؛ وانتشر فيها العَدْل، وتحقّق الأمن والأمان، فكَثُرت عمارتها، وزاد غرسها، ثمَّ ظهر ابنه موسى الذي كان يحمي قوافل الحجيج المارّة بالعارض، وخاطبه العثمانيّون عام (981ه) لعلوِّ مكانتِه ورفعتها، وأهمّيتها في العارض ونجد؛ إذ ذكرت وثيقة عُثمانيّة مؤرَّخة عام (981ه/1573م) تُخاطب جَدَّ الأُسرة السُّعوديّة وأمير الدِّرعيّة؛ إبراهيم بن موسى بن ربيعة الحنفي، وتُبيّن دوره في حماية وتأمين سلامة وأمن طرق قوافل الحُجّاج الأحسائيّة العابرة من بُلدان العارض ونجد باتّجاه مكّة المُكرّمة، والمدينة المنوّرة المُشرّفتين، ورعاية شؤون أفرادها. وعلى هذا النّهج سار حفيده الإمام محمّد بن سُعود بن محمّد بن مقرن، الذي أسّس الدَّولة السُّعوديّة الأولى عام (1139ه/1727م)، واتّخذ الدِّرعيّة عاصمة للبلاد بعد أن وحّد شطريها؛ المُليبيد وغصيبة، فكان من أهمّ ما قام به؛ حماية قوافلِ الحُجّاج والعُمرة، والتّجارة، والسّابلة المارّة في بلاده، وتهيئة الطُّرق اللّازمة لوصولهم إلى الأماكن المُقدّسة بيسر وأمان. وبذلك أصبح تاريخ تولّي الإمام محمّد بن سعود حُكم البلاد مرحلة فاصلة بدأت فيها البلاد تنعم بالأمن، والأمان، والاستقرار، والتّطوّر، والرّخاء، والازدهار، وأصبح ديدن الحُكم في الدِّرعيّة تحكُمه ضوابط وقواعد واضحة في انتقال الحكم والإمارة بسلاسةٍ في هذه الأسرة الكريمة. وقد أشار المؤرّخون أنَّ المُسافر كان يُسافر في عهد الإمام عبدالعزيز بن محمّد بالأموالِ ولا يتعرّض له أحد بسلبٍ أو نهبٍ، علاوة على أنَّ عامّة أهل نجد يتركون مواشيهم ترعى في أوقات الرّبيع، ولا يتعرّض لها أحد. ولمّا كانت المواشي تُشكّل أحد المصادر الرئيسة للاقتصادِ السعودي في تلك الفترة، ولمّا كانت الإبل، بشكل خاصّ، ممّا يَعتني به النّجديّون حاضرة وبادية، ويضطرّون لرعيها وهي سائبة في أوقات الرّبيع ممّا يُعرّضها للضّياع والسّرقة، وهي ما تُسمّى بضوالِّ الإبل، أو الهَمَل بلغة نجد الدّارجة، تلك الضّوال التي عُنيت بها الدَّولة السُّعوديّة الأولى في نطاق التّرتيبات الأمنيّة التي اتَّبَعت في تنفيذها دواعي الحماية والأمن في هذا المجال. فقضت هذه التّرتيبات أنَّ من وجد إبلاً ضالّة عليه أن يأتي بها إلى الدِّرعيّة؛ فيُسلّمها إلى حكومة الدَّولة السُّعوديّة الأولى التي خصّصت لها مركزاً أمنيّاً لحفظها، ويجعل فيها رعاة، ويتعهّدها بكلّ ما تحتاج، حتّى كانت تتناسل أحياناً قبل أن يأتي صاحبها للبحث عنها، وقد عمّمت الدَّولة السُّعوديّة الأولى على النّاس بأنَّ كلّ من له شيء منها أن يأتيَ بشاهدين، أو شاهد مع يمينه، ويأخذها، ويبدو أنّه في حال الضّرورة كانت تُعَرَّفُ ثمَّ تُباع حتّى إذا جاء صاحبها وتحقَّق منه أُعطي ثمنها. 8- أمن الدَّولة السُّعوديّة الأولى: هدفَ أمن الدَّولة السُّعوديّة الأولى إلى تحقيقِ المحبّة، والتّناصح، والتّناصر بين الحاكم والمحكوم، وحِفظ أمن الدَّولة (المؤسّسات، الأرض، الحدود) من الأخطار الدّاخليّة والخارجيّة، فحُكّام الدَّولة السُّعوديّة الأولى كانوا يَقومون بدورهم المنوط بهم من رعايةِ مصالح رعاياهم، وإقامة العدل، ومُحاربة من يبغي على دولتهم شعباً، وأرضاً، ومؤسّسات. وفي المُقابل قابل الشّعب السُّعودي جهود حُكّامه بالطّاعة والولاء لهم، وامتثال أوامرهم، ومعونتهم فيما يقومون به من واجبات الحاكم التي تَصبّ في مَصلحة المحكوم، من نشرِ الأمن والأمان، وتطبيق العدل، وإشاعة الاطمئنان في جميع أرجاء دولته. ويميّز هذا كلّه في تحقيق أمن الدَّولة السُّعوديّة الأولى إشاعة مبدأ الشّورى، وتطبيق مبدأ العدل والمُساواة في الحقوق والواجبات بين أفراد المُجتمع، ممّا عزّز الثّقة بين الحاكم والمحكوم. ويُعدُّ الاستقرار السّياسيّ في المُجتمعِ السُّعودي الأول من المُقوّمات الأساسيّة لتحقيقِ الأمن، من خلالِ حفظ الحقوق الدّستوريّة الشّرعيّة للفرد؛ عبر حُكمٍ عادلٍ، رادعٍ، يُراعي شؤون المواطنين، ويعمل على توفير أسباب الطّمأنينة لهم، ولتحقيقِ الاستقرار السّياسيّ شرع حُكّام الدَّولة السُّعوديّة الأولى بتأمين دعائمه الأساسيّة التّالية: 1 - وجود جهاز أمني مركزي قوي وفعّال ومُستعدّ للتّدخّل دوماً لتحقيق الأمن بوجه عامّ، وتأمين الوطن وحدوده، وحفظ كيانه، وعلى وجه الخصوص حماية الأفراد من المُجرمين، والمُنحرفين، والخارجين عن القانون. 2 - وجود جهاز قضائي عادل وحاسم، يضمن حقوق الجميع، ويفصل في الأحكام بسرعةٍ وحسمٍ، وَفق قواعد الشّريعة الإسلاميّة، دونما تدخّل من أحد لصالح جهة أو هيئة، لقطع المفاسِد وردع المُعتدين، ولجم المُخالفين ليكونوا عبرة لغيرهم. 3 - وجود تخطيطٍ مُتكامل، وسياسةٍ جنائيّةٍ سليمة، وتَعاون وثيق بين المؤسّسات والجمعيّات الحكومية كافّة: العدليّة، والتّربويّة، والأخلاقيّة، والأمنيّة؛ لتوفيرِ مقوّمات الأمن، والأمان للفرد والجماعة والدَّولة. 4 - أمن مصالح الدُّول في الدَّولة السُّعوديّة الأولى: التزم الإمام محمد بن سعود، ومن جاء بعده من حُكام الدَّولة، بحمايةِ مصالح الدُّول التي كانت تَرتبط مع الدَّولة السُّعوديّة الأولى بمواثيقَ ومُعاهدات سياسيّة تقوم على الاحترام المُتبادل في حمايةِ المصالح العامّة لها، ومن ذلك حفظت الدَّولة السُّعوديّة طُرق الحجّ والعُمرة من تعدّيات النّهب، والسّلب، وقطع الطّريق، كما عملت أيضاً على حفظ البعثات الدُبلوماسيّة الأجنبيّة، وأمن المُستشرقين، والزوّار، والطُّبغرافيين الأجانب الذين يزورون أقاليم الدَّولة السُّعوديّة الأولى، وضمنت أمنهم وحمايتهم وعودتهم سالمين إلى بُلدانهم الأمّ، كما حفظت الدَّولة أيضا طُرق البريد الخارجي وسُعاته المارّين في أراضيها. وتَضَمَّنَ تحقيق مصالح الدُّول في الدَّولة السُّعوديّة الأولى تحقيق الأمن الوطني بشقّيه: الدّاخلي والخارجي؛ فالدّاخلي كانت بموجبه تُدير الدَّولة مُجتمعها، عن طريق فرض الاستقرار السّياسي للجبهة الدّاخليّة وتماسكها، وقُدرة الدَّولة على تطوير نفسها لمُلاحقةِ الأحداث الطّارئة. أمّا الخارجي فبه كانت الدَّولة تحفظ كيانها، من خلال مرونة قرارها السّياسيّ، وقُدرتها على اتّخاذ قرارها السّياسي المُستقلّ، بما يُحقّق مصالحها، ومواقفها في مواجهة التّهديدات التي تعترض سلامتها ووجودها السّياسيّ، ومصالحها الاقتصاديّة المشروعة، وتأكيد سيادتها على الرّقعة الجُغرافيّة التي يقوم كيانها عليها في الجزيرة العربيّة.