الأسواق الشعبية ليست ساحات بيع وشراء فقط؛ بل تعتبر ملتقيات سياحية ثقافية واجتماعية تعكس تفاعل الرواد مع بعضهم، وتقوم بتجديد الروابط المجتمعية، فهي دومًا بحاجة إلى إعادة الروح وتكريس الجهود باعتبار معنوي واهتمام سياحي وترفيهي، فهي ذاكرتنا الشعبية، وهي ثقافتنا وتاريخنا الذي يجب أن نحافظ عليه قبل أن يتعرض للاندثار.. الأسواق الشعبية تأخذنا بعيدًا، وتبث إحساسًا دافئًا متصلا مع الماضي والحاضر المفعم بالتفاعل الشعبي، والاجتماعي، والثقافي يعزز تبادل الخبرات والأفكار والمشاعر.. ويلتقي فيه الناس لتلبية احتياجاتهم أو الاستمتاع بالمحتوى التراثي الموجود ضمن محيطه. وتعتبر المملكة وجهة غنية بالتاريخ والثقافة وإحدى أفضل الدول لتجربة سياحية مبتكرة وفريدة من نوعها، وتزخر المملكة بالأسواق التراثية والشعبية التي تعكس عمق تاريخها وتنوع ثقافاتها المحلية. والواقع أن الأسواق الشعبية المحلية تمسكت بطابعها التراثي وحافظت على هويتها وماهيتها وخصوصيتها من الاندثار رغم قسوة الزمن وتقلباته، واتجاهات الحياة العصرية، وما صاحبها من أنماط حياتية جديدة، وظروف متغيرة مرتبطة بهوية الأسواق وطبيعة التسوق كانتشار المجمعات التجارية والأسواق الترفيهية، وكذلك أسلوب التسوق الذكي والإلكتروني. والحقيقة أن الأسواق الشعبية تعكس جانباً مهماً من ذاكرة الحياة الاجتماعية، وتحكي عن نمط وسلوك شعبي أصيل استند إلى البساطة والتسامح والتعارف والتواضع، فحافظ على ثقافة الباعة البسطاء الذين ظلوا أوفياء لذاكرتهم الشعبية، ولذاكرة المكان الذي ينتمون إليه، ففرض العرف أساليب وتقاليد البيع والشراء البسيطة عند الباعة والمشترين، من خلال اللقاء الشخصي المباشر بين البائع والزبون الذي في كثير من الأحيان ينتهي بإرضاء الزبون نفسه، ليس بوصفه زبوناً عابراً، بل إنساناً يُتعامل معه ويُتعارف عليه وتوثق العلاقة الإنسانية به، وهذا ما لا يمكن إيجاده أثناء التبضع في المراكز التجارية الكبرى التي يتعامل فيها الزبون مباشرة مع السلعة بوصفها علبة معينة على رفٍ معين وبرقم محدد. ولم تستجب الأسواق الشعبية للتبدلات الهندسية الحديثة، ولا للطفرة العمرانية التي اكتسحت المنطقة، ولا لثقافة الاستهلاك التي طغت على عقول ووجدان البشر وجرفتهم بعيداً عن ثقافتهم وتاريخهم وتراثهم، وفضلوا الإبقاء على البسطات والفرشات وبيع تلك المنتجات التقليدية الأصيلة والتراثية. وسوق الزل كأحد الأسواق الشعبية في مدينة الرياض، وكرافد تراثي وتاريخي له في ذاكرتنا مذاق شهي، وطابع عميق، فهو مكان يستدعي فيه المرتاد شيئا من الذكريات، ويتزود من الأغراض الشعبية الأصيلة فهو صوت يتدلى من نوافذ الزمن الجميل ليطل علينا فيعبّر عن عاداتنا وتقاليدنا؛ حيث تشكل المقتنيات والأنشطة التلقائية تواجدا ملحوظا فيتجسد الماضي بحضوره الطاغي. وظل يزدان بجاذبيته وسحره أمام المواطنين والمقيمين والسياح، الذين يجدون فيها سجلاً شعبياً اجتماعياً واقتصاديا وملاذاً للبساطة والعفوية، واستذكاراً حميمياً. وكوني من مرتادي هذا السوق بشكل متكرر وكل مرة أجد متعة كبيرة فيما اشاهده من تفاعلات اجتماعية وحراك تراثي وثقافي وسياحي.. وهنا توجب التوقف عند شخصيتين معروفتين يلقب أحدهما باسم شهرة يدعى ب"شلقم" والآخر يسمى "أبو ردح" يتواجدان في سوق الزل ومعهما بعض رفقائهم الكرماء وهما من الباعة والدلالين الشعبيين الذين ظلوا موالين للأسلوب الشعبي القديم وللتقاليد التجارية العريقة في عرض وبيع منتجاتهم ومنتجات غيرهم وبثوا في أجواء الاصالة أسلوب "الدلالة" والبيع التلقائي بعرض البضاعة مباشرة لمرتادي السوق أو منطقة "التحريج".. شلقم ذلك المواطن الذي يرتدي ثياب الطيب والفكاهة والعراقة الوطنية بدلالته على بيع المعروضات الأثرية من منتجات الحرف اليدوية، إلى السجاد والأثاث والعطور والبخور والتحف والمشغولات الفنية والملابس والأحذية والكتب القديمة والصور والفواكه والإكسسوارات القديمة النادرة التي تجلب لساحة الحراج فيبرز صوته بأسلوب بديع فيه من الترحاب بالزوار من المواطنين والمقيمين، وكذلك بشكل خاص مع السياح الذين بتفاعلون مع أدائه في "التحريج". وكذلك الجميل المسمى ب"أبو ردح" الذي يمثل نشاطا فنيا حيث لديه من كنوز مقتنيات التسجيلات القديمة والأصيلة والنادرة القديمة، والإرث الفني الغابر فيضيف بهجة من الأنس والعطاء لمرتادين سوق الزل بشكل عام ويتكاثف الناس والسياح حوله ليستمعوا إلى نادر تسجيلاته فيشاركونه التفاعل وبعضهم الرقصات والتعليقات الجميلة. والحقيقة ان هذين المواطِنيْن فيما يقدمانه بشكل فردي من إضافة لسوق الزل من اجتهادات شخصية مثالان مهمان يلفتان النظر إلى مسألة استثمار الكوادر البسيطة والشعبية في تنشيط وترتيب فعاليات سياحية وترفيهية بحول الله ستصب في مسار جذب الزوار بالذات السائحين للاطلاع على المعالم الأثرية وطبيعة الناس البسيطة وأجندات التأثير في الصور النمطية بشكل إيجابي، كل ذلك يصب في مصلحة وجهود السياحة الوطنية فيحتاجان وامثالهما من الناشطين الشعبيين دعما معنويا وماديا ومتابعة من قبل الجهات المعنية كالسياحة والترفيه بدراسة برامج وخطط تسهم في تفعيل هذا الواقع السياحي والترفيهي عبر الأسواق الشعبية. ويبقى القول: ان الأسواق الشعبية ليست ساحات بيع وشراء فقط؛ بل تعتبر ملتقيات سياحية ثقافية واجتماعية تعكس تفاعل الرواد مع بعضهم، وتقوم بتجديد الروابط المجتمعية، فهي دومًا بحاجة إلى إعادة الروح وتكريس الجهود باعتبار معنوي، واهتمام سياحي وترفيهي، فهي ذاكرتنا الشعبية وهي ثقافتنا وتاريخنا الذي يجب أن نحافظ عليه قبل أن يتعرض للاندثار، وما الرعاية الكاملة التي توليها القيادة الكريمة لكل الجهود السياحية والترفيهية إلا مدعاة للفخر والاعتزاز.