تمتلئ الأحساء بالأسواق الشعبية التي تقام في القرى والمدن، فالمعروف أن في كل يوم من أيام الأسبوع يقام سوق شعبي في قرية معينة، وهي كلها تقام في فترة الصباح، وفي قرية الحليلة وحدها يقام سوقان، يومي السبت والثلاثاء، كما أن هناك من القرى التي لا يقام فيها سوق شعبي، بدأت تقيم سوقا خلال العصر، وبالتالي فان هذه الأسواق في تزايد مستمر. ولم يقتصر الحال على القرى، بل تعدى ذلك إلى الأحياء الحديثة، ويعد سوق الخميس أشهر هذه الأسواق، بالإضافة إلى أسواق الحراج، دعيدع، الحليلة، القارة، الجفر، الطرف، المبرز والجشة. ثقافة الأسواق الشعبية وفي الأسواق الشعبية حياة اجتماعية تعكس جانبا مهما من طبيعة المجتمع، خلف هذه الأسواق أو في صلبها تكمن ثقافة معينة للمجتمع، إذ أن المجتمع الأحسائي في أغلبه مجتمع بسيط ومتسامح ومتعارف، وبالتالي هذا المجتمع يطلب البساطة والصدق في كل تعاملاته اليومية، والتي منها البيع والشراء، فيجد الكثير من الناس الراحة في التعامل مع الأسواق الشعبية، أو بالأخص التعامل مع الباعة في الأسواق الشعبية، إذا أن البائع يرضيه الربح البسيط، كما أن لديه الاستعداد للبيع بسعر أقل أو التسليف أحيانا، فقط لأجل كسب الزبون أو إرضائه، حتى وإن لم يعرفه، أو أنه زبون عابر، وليس بصفته زبونا يكسب منه، بل لأنه إنسان يتعامل معه، وهي صفة لدى أبناء الأحساء، الطيبة حتى لو كانت على حساب النفس، ومن هنا يكون البكاء والحسرة والحرقة على سوق القيصرية من هذا الباب، فالقيصرية ليست مجرد سوق أو مكان تجاري، بل هو حياة اجتماعية، وشكل ثقافي رفيع في التعامل مع السوق بشكل عام، حيث إن فيه البساطة والتسامح والألفة. ومن جهة أخرى يمكن أن نستدل على وجود هذه الأسواق الشعبية وكثرتها وتناميها على الحال الاقتصادية المتواضعة للأغلبية من المجتمع في الأحساء، لأن هذه الأسواق تبيع سلعة بسعر رخيص ومتواضع مقارنة بما في الأسواق الكبيرة، فأسعار السوق الشعبي أو لنقل البسطات يتناسب مع هذه الأغلبية، التي تجد نفسها قادرة على شراء احتياجاتها من هذه الأسواق، ولذا تلقى الأسواق الشعبية قبولا كبيرا من الناس، أو من فئة معينة، وهي فئة كثيرة العدد. تجاهل النمو السكاني وليس من المستغرب أن يزداد العدد لهذه الأسواق، إذ أن الأحساء من مزاياها النمو السكاني المتزايد، والذي ينمو بشكل مستمر، وهذه الميزة يكون عائدها على تجارة واقتصاد البلد، إلا أن رجال الأعمال في الأحساء غير متنبهين لهذا الأمر، أو أنه لا يعنيهم، ف (رأس المال جبان) مقولة تجد حظها في الأحساء، ومن الطبيعي أن النمو السكاني لابد أن يصاحبه وجود شكل استهلاكي جديد، وتعبير جديد للحياة، ومن بينها أيضا سلعة جديدة وبضاعة جديدة، وبالتالي سوق جديدة، سوق متطورة وحديثة، لأن الجيل الجديد يعني سوقا جديدة أيضا وسلعة جديدة، ولكن أبناء الأحساء يكبرون، والأحساء ثابتة لا تتغير، ولا تتطور، لا أسواقها ولا شوارعها ولا إنارتها، ولا مدنها الترفيهية ولا مطاعمها، ولا مبانيها، فقط المطبات والحفر التي هي في تطور دائم وتزايد مستمر وأشكال بديعة وجديدة، ولكل شارع مطباته الخاصة، ولذا يتجه أبناء الأحساء (العوائل والشباب) إلى الخبر والدمام والبحرين للتنفيس عن أنفسهم وعن أطفالهم، والانبهار بتلك المباني والعمارات الشاهقة والمدن الترفيهية المغلقة. السوق الشعبي والسياحة أدرجت الأسواق الشعبية (مباسط) ضمن فعاليات مهرجان الشرقية التي ستنفذ في الأحساء، وكان القصد من وراء ذلك زيادة عدد الفعاليات في القائمة للأماكن التي يمكن زيارتها باعتبارها أماكن سياحية، وهذا عين العقل، فالسائح أو الزائر لأي دولة، لا بد أن يحرص على زيارة الأسواق الشعبية، لأنه من خلالها يمكن أن يتعرف على ثقافة البلد من خلال هذا السوق، فهو واجهة سياحية وثقافية واجتماعية، لابد من المرور بها، حتى يتم الحكم على هذا البلد وعلى شعبه وعاداته وتقاليده وصناعته وحرفه اليدوية، ولكن لجان المهرجان قد لا تكون ملمة بما في الأسواق الشعبية الموجودة في الأحساء، فليس في الأحساء أي سوق شعبي يمكن أن تتشرف به، وتدعو الزائر من خارج المملكة إلى زيارة أو مشاهدة هذا السوق، لأنها ليست أسواقا أصلا، بل هو تجمع عشوائي لعدد من الباعة في مكان مفتوح للعراء والريح والغبار والشمس والحر والبرد والمطر، ولجنة المهرجان لم تغرس شجرة واحدة كي تظلل بائعا من حرارة الشمس، أو تحمي بضاعته من التلف والفساد، ولم تضع بلاطة واحدة لبناء رصيف يمشي عليه المتسوقون، بدل إثارة الغبار على الباعة وعلى بضائعهم. كلها أسواق في العراء، مكشوفة لتقلبات الجوّ، ليس بها معمار أو عمران أو بناء أو حتى مظلات، يضعها البائع حتى لو كانت على حسابه، فالبلدية مازالت تمنع وضع المظلات، في هذه الأسواق، على اعتبار أنها ستنظم هذه الأسواق، بالرغم من أن الباعة يسمعون مثل هذه الأقاويل منذ 10 سنوات، ولا يجدون أي تعديل أو اهتمام من قبل البلدية بهذه الأسواق. سوق الخميس نقل من داخل الهفوف إلى قرب سوق الخضار المركزي عند مخطط عين نجم، وترك السوق هناك بشكل فوضوي وعشوائي، وعما قريب سينقل سوق الحراج، أيضا بشكل عشوائي ومهمل، تزيد الأسواق فوضى وتجاهل، بينما تعتبر هذه الأسواق في الدول الأخرى، أماكن سياحية وتراثية وثروات اقتصادية. الهروب إلى الأسواق الشعبية وربما مجازا نطلق عليه سوقا شعبية، إذ أنه لم يتجاوز أن يكون عددا من أصحاب المباسط المتنقلة التي تجدها في كل مكان، إذ أن هؤلاء الباعة يتكسّبون رزقهم من بيعهم هذا، وربما يعاني هؤلاء من الربح الرخيص، حيث لا يتجاوز ربحهم الخمسة الريالات في السلعة الواحدة، وهذا أقصى ما يمكن أن يحققوه من ربح، ويبقى الحال الاقتصادي لهذا البائع متواضعا جدا، أو هو يسير للأسوأ، لأن ربحه ثابت، بينما متطلبات المعيشة في ارتفاع مستمر، كما أن أكثرهم يبيع البضاعة الساقطة، التي يشتريها من سوق الحراج، أو السلعة التي قريبا ستعلن عن انتهاء صلاحيتها، ومن جهة أخرى لا يستطيع أن يحسن وضعه الاقتصادي، لأنه غير قادر أبدا على أن يستأجر له دكانا في إحدى الأسواق التجارية، للارتفاع الفاحش لأسعار الإيجارات، وللفوضى التي تعيشها الأسواق، ولسبب آخر، وهو أن أكثر هؤلاء الباعة الذين تمتلئ بهم الأسواق الشعبية هم هاربون من الأسواق التجارية، بسبب الديون التي لحقتهم جراء ممارسة البيع في هذه الأسواق التجارية. فوضى الأسواق التجارية وتساهم الفوضى التي تعيشها الأسواق التجارية في زيادة عدد الباعة في الأسواق الشعبية، وتأتي الفوضى لهذه الأسواق في عدم وجود نظام معين يحكم هذه الأسواق، ففي سوق (السويق) بالهفوف على سبيل المثال مازال ملاك المحلات يتحكمون في أسعار الإيجارات، وهو ارتفاع كبير يصل بعضها إلى 100 ألف ريال، وهذا سعر معقول قبل 10 سنوات، ولكن في السنوات العشر الاخيرة، أو بالتحديد في السنوات الخمس الأخيرة، بدأ ربح تجار السويق يتضاءل ويقل، لأسباب عدة منها كثرة افتتاح المحلات في السوق نفسه، والتنافس بين الباعة في الأسعار، وكذلك وجود البضاعة المقلدة والمغشوشة، التي تباع بأسعار زهيدة على اعتبار أنها ماركات معروفة، بينما هي مقلدة، كذلك وجود العمالة الأجنبية التي تمارس البيع دون رقابة، ومن أسباب قلة الربح أيضا دخول كل من (هب ودب) إلى السوق وافتتاح محل، بالرغم من أنه موظف حكومي أو في شركة معروفة، وهذا يؤدي إلى كثرة العرض، الذي يؤدي بدوره إلى مضايقات الباعة الآخرين والبيع بسعر أقل، ومن هذا الحال يجب على ملاك المحلات أو المؤجرين تخفيض أسعار الإيجارات، لوجود هذه الأسباب، ولكن المؤجر نفسه لا يريد للمبلغ السنوي الذي يحصله في نهاية السنة أن ينقص ولا ريال واحد، فهو صاحب الملك وهو صاحب الكلمة الأخيرة، فمن يستطيع الدفع ويرضى بهذه المبالغ الفاحشة في أسعار الإيجارات، أو أن هناك من ينتظر ليستأجر المحل، ولا يوجد نظام معين يجبر هذا المالك على خفض قيمة سعر الإيجار ومراعاة الحالة الاقتصادية لأصحاب المحلات، ومع وجود هذه الفوضى والخسائر التي يتعرض لها بعض أصحاب المحلات في السويق، يجد البعض منهم نفسه مجبرا على ترك السوق والمحلات المستأجرة وممارسة البيع المتجول بحرية تامة في الأسواق الشعبية التي تقام في كل قرية وفي كل حيّ سكني، والحال الذي تشهده سوق السويق يعيشه سوق الخضار المركزي، حيث يحدد مالك السوق بمفرده سعر الإيجار للمحلات والمباسط، في الوقت الذي لا يمكن فيه البائع أن يوفر قيمة الإيجار على مدى العام، والذي لا يتجاوز للمبسط الواحد 6 آلاف ريال، بينما المحل يصل سعر إيجاره إلى 40 ألف ريال، ومحلات أخرى ب 15 ألف ريال، ولا يستطيع البائع أن يوفر قيمة الإيجار، لأن سوق الخضار المركزي غير قادر حتى الآن على جذب الزبائن إلى السوق، وكذلك هروب الباعة من السوق، مما أدى إلى ضعفه، ويعيش سوق الخضار فوضى وعشوائية، تسببت في خسائر الكثير من الباعة وتراكم الديون عليهم، مما دعا بعضهم إلى البيع المتجول في الأسواق الشعبية، والحال نفسه نجده في أسواق أخرى، لعدم وجود الرقابة والنظام الذي يحدد أو يوجد شكل معين للتعامل مع السوق. شنبات سوق الخميس تحمل الأسواق الشعبية ذاكرة المجتمع، فمن خلالها نتعرف على تطور المجتمع وتحولاته، فالسوق الشعبي لا يستجيب في أكثر الأحيان للتحولات والتبدلات التي تطرأ على أشكال الحياة، لا في شكل المبنى، ولا في البضائع أو السلع، لأن الباعة هم أصحاب ثقافات معينة، محدودة وبسيطة، ولا تقبل المجازفة أو المغامرة، ولأن ثقافة هؤلاء الباعة بسيطة، ودرجة تعلمهم محدودة، فانهم لا يحبون تبدلات الحياة، ولا يسعون وراء ذلك، ولذا من الصعب إقناعه ببيع سلعة جديدة أو تبديل نشاطه التجاري، فهو يتمسك بالقديم أو المتعارف عليه، لأنه يضمن بيعه، ويعرف زبائنه، لأنها سلعة مقبولة اجتماعيا، ومن هنا نرى أن الزمن يمر ويعبر على الأسواق التجارية الكبيرة الأسمنتية والحديثة، ولكنه يتوقف عند الأسواق الشعبية، سواء في البضاعة، أو في اللبس للبائع، ففي سوق الخميس أو سوق الحراج تجد من يبيع الأشرطة، بشنباته المفتولة، التي تنتظر الصقر أن يحطّ عليها، وطريقة لبس غترته لم تتغير، الموضة نفسها التي كانت معهودة منذ 30 عاما، مازال يبيع الأشرطة الغنائية لحضيري بو عزيز وبن فارس وبدر الغريب وسلامة العبدالله وغيرهم، يرفع صوت المسجل إلى أقصاه، وعيونه ساهمة معلقة على ماضٍ ملئ بالعفوية والبساطة، فالزمن مرّ ولكن هذا الرجل لم يتغير بشكله وشنباته التي لم يشذبها الزمن، ولم تتأثر بتقليعة عاصي الحلاني، وأشكال أخرى كثيرة، بثيابها بكثرة أزرارها، وحطة الغترة، وبيده يلوح بمفاتيحه المربوطة بسلسلة طويلة، هذه الأسواق تحتفظ بالتاريخ وبالزمن، لم تفرّط فيه، ولم تستبدله بغيره، وتختزل الذاكرة ومرحلة تاريخية مرت على الأحساء، ولكن هذه الذاكرة مهمشة، لا أحد يريد أن يعترف بها، ولكنها ثقافة البلد التي يجب أن توضع في إناء الرعاية والاهتمام والحفاظ عليها، ولكن بالاهتمام بالسوق نفسه وبناء معمار يتناسب مع هذه الثقافة، والكلام نفسه ينطبق على سوق الحراج. متلثم في سوق الحراج وما دمنا اقتربنا من سوق الحراج، فلابد أن نتوقف عند هذا السوق الذي هو سوق الجميع، ففيه ترى كل فئات المجتمع، ففيه حياة صاخبة وحيوية، ولكنها في الوقت نفسه مهمشة ومبعدة، في سوق الحراج تقع عينك على كل شيء يخطر ببالك، أو لا يخطر أيضاً، فجأة تقع عينك على أدوات استخدمتها في الطفولة ونسيتها، وكل الأجهزة التي مرت على المجتمع وتجاوزها، استهلكها ورماها، كل ساقطة تجدها في سوق الحراج، كل ما تحتاجه، ويمكن أن اسميه (السوق المنقذ)، قد تبحث عن (بلط صغير) في الوكالات وكل المحلات والتشاليح ولا تجده، وقد تعثر عليه بكل سهولة في الحراج وبكثرة أيضا، وفيه أجهزة لمن أراد (أن يمشّي حاله)، أو بضاعة لمقيم مؤقت، قد تشتري أجهزة جديدة برخص التراب، كما أن هناك في السوق من يبيع التراب أيضا، وكل الأشياء المهملة، سوق كل الأشكال والألوان والأحجام والأنواع، من البضائع والناس أيضا، ولكن لا تستغرب عندما ترى من يسير وهو متلثم، خشية أن يراه أحد معارفه، ولاشك أن هذا يعكس تصرفا غير مقبول، فهذا المتلثم يتنكر للسوق، أو كأنما يريد أن يقول أن هذا السوق لفئة معينة، وأنا لست منها أو لا أنتمي لها، فهو يحدد السوق في زاوية معينة، أو لنقل أنها وضيعة، في الوقت الذي يكتسب أهمية كبيرة لأناس مختلفي الثقافة والاهتمامات والميول، لأن سوق الحراج يجتذب جميع الثقافات، ففيه تباع الخردوات التي لا تصلح إلا للقمامة فقط، وتباع فيه أيضا، الكتب النادرة والمخطوطات والوثائق والمجلات والصور القديمة، وهناك من يدخل السوق كي يعثر على مثل هذه النوادر، يشتريها في غفلة ممن يجهلها.