في صناعة التأليف يتلاقى الإبداع والفن مع التأثير الاجتماعي والثقافي، وبالرغم من وجود هذه القوة الكبيرة فهنالك مسؤولية أكبر لضمان أن تكون أعمال التأليف متوافقة مع القانون العام لدولة المنشأ. إن التزام المؤلف بالقوانين والآداب العامة ليس مجرد واجب قانوني، بل هو أيضًا تعبير عن احترامه للمجتمع ككل بما في ذلك القيم الثقافية العميقة التي تشكل نسيج هذا البلد. وفي ميدان القانون نتعامل مع المصنفات سواء كانت فنية أو أدبية أو علمية شأنها كشأن أي مصنف آخر تعالج جوانبه القانونية اتفاقيات دولية وتشريعات وطنية، ولما كان الهدف من هذه المقالة هو تسليط الضوء على ما أجمعت عليه التشريعات المقارنة من خلال التعريج على أبرز النقاط في الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها معظم دول العالم في هذا الشأن. ومن هذا المنطلق تجدر الإشارة إلى أهمية التمييز بين حرية المؤلف وحماية حقوق المؤلف، إذ إن حرية المؤلف تمت معالجة جوانبها القانونية من خلال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أما حماية حقوق المؤلف فقد جرى التطرق لها من خلال اتفاقيات عديدة من أبرزها اتفاقية برن لعام 1886 والمعدلة عام 1979، واتفاقية التربس (TRIPS)، واتفاقية الويبو (WIPO ) بشأن حق المؤلف. وفقاً لاتفاقية برن المعدلة بتاريخ 28 أيلول لعام 1979م، والتي تعرف المصنف على أنه (كل إنتاج في المجال الأدبي والعلمي والفني أياً كانت طريقة أو شكل التعبير عنه...إلخ). وهذا العموم المطلق يشمل كافة أنواع الإنتاج الفكري سواء كان خطبة، أو مقالة، أو قصيدة، أو رواية، أو بحثاً علمياً، أو فيلماً سينمائياً... إلخ، بيد أن التطبيقات العملية أثارت نوعاً من الإشكال القانوني حول مدى شمول برامج الحاسب الآلي بهذا النص المطلق، ولذلك جاءت اتفاقية التربس (TRIPS) للنص صراحة على حماية برامج الحاسب الآلي باعتبارها مصنفات أدبية؛ وهذا يوضح مدى حساسية تفسير الاتفاقيات الدولية بالرغم من عمومية النصوص الواردة فيها. الجدير بالذكر أن ليس كل إنتاج فكري يتمتع بالحماية القانونية وفقاً للاتفاقيات الدولية لحقوق المؤلف حيث أتاحت اتفاقية برن للدول الأعضاء حق استثناء الإنتاج الفكري من الحماية القانونية متى ما اتسم بالطبيعة التشريعية أو الرسمية أو الإدارية أو القضائية أو الصحافية، وهنا تتجلى الفجوة التشريعية حيث سكتت الاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق المؤلف عن ضرورة احترام المصنفات المبتكرة للنظام العام والآداب والمصلحة العامة في الدولة محل الإنتاج أو النشر، وإنما اكتفت في الإشارة إلى حق الدولة العضو بمراقبة المصنفات وتداولها وعرضها من خلال التشريعات الوطنية وفقاً لأحكام المادة 17 من اتفاقية برن. أرى أن الغاية من هذا السكوت هو ترك معالجة جوانب حرية المؤلف للاتفاقيات المعنية بالحريات الإنسانية وأبرزها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، حيث قررت المادة 27 من ذات الإعلان: (لكل شخص حق في حماية المصالح المعنوية والمادية المترتبة على أي إنتاج علمي أو أدبي أو فني من صنعه.) وبهذا النص لا يمكن استبعاد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من قائمة الاتفاقيات المنظمة لحقوق المؤلف على الإطلاق. من خلال استقراء نصوص هذه الاتفاقية نجد أن هذا الحق مقيد بالاعتراف بحقوق الآخرين واحترامها كما نصت على ذلك المادة 29/2 من ذات الإعلان. إلا أن حساسية تفسير الاتفاقيات الدولية أوجدت فجوة تطبيقية سمحت بوقوع العديد من التجاوزات على مر التاريخ، ونستشهد في هذه المقالة بواقعة الأعمال الفنية التي جسدت في هيئة رسوم تضمنت إساءة للرموز الدينية، في حين كانت حجة مؤلفي الأعمال الفنية أنه لا توجد قيود تشريعية على حرية الإنتاج الفكري، بل إن أعمالهم جديرة بالحماية القانونية وفقاً لتشريعات الملكية الفكرية والتي تفرض على الآخرين واجب احترام مصنفاتهم الفنية، وهو الأمر الذي دفع معظم دول العالم للاتفاق مرة أخرى على اتفاقية دولية جديدة تجرم ازدراء الأديان والرموز الدينية على وجه الخصوص. عطفاً على ما سبق ذكره، وتأكيد على الدور المهم للإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مجال الملكية الفكرية، نجد أنه في حالة تحوير قصة واقعية إلى فيلم سينمائي فإن حرية المؤلف (محوّر القصة) مقيدة باحترام خصوصية أبطال القصة الواقعية وعدم المساس بسمعتهم ونرى أنه يجب على المؤلف (محوّر القصة) أخذ موافقة خطية من أبطال القصة الواقعية بالطريقة التي سيظهرون بها في دور العرض العالمية، وهو الأمر الذي يتماشى مع الغاية التنظيمية للمادة 12 من ذات الإعلان التي تنص على (يحق لكل شخص في أن يحميه القانون من مثل ذلك التدخل -ويقصد بذلك التدخل بالحياة والشؤون الخاصة- أو تلك الحملات). ولا توجد حملة إعلامية أقوى من الفيلم السينمائي الذي ينشر على الصعيد العالمي. ل قد عالجت التشريعات المدنية المقارنة مسألة التعويض عن خطأ المؤلف تحت مسمى المسؤولية التقصيرية تأسيساً على مبدأ تعويض الغير عن الأضرار التي لحقتهم بهم نتيجة الخروج عن حدود الرخصة، ويذكر الفقيه السنهوري -رحمه الله- في مصنفه الوسيط: «الرخصة حرية مباحة في التصرف» ويذكر من أمثلتها حرية الكتابة والنشر التي نوردها في هذه المقالة تحت مسمى (حرية المؤلف)، ويذكر -رحمه الله- أن التشريعات المدنية المقارنة لا تخرج في غايتها عن لزومية تعويض الغير عن الأضرار التي لحقت بهم نتيجة الخروج عن حدود هذه الرخصة، ويعد المعيار الضابط لتحديد هذا التجاوز هو معيار الشخص العادي (انظر عبدالرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، ج1، ص810 وما بعدها)، ونافلة القول إن حماية حقوق المؤلف التي كفلتها تشريعات الملكية الفكرية لا تمنح المؤلف حصانة قانونية تجاه المسؤولية المدنية أو الجزائية عن إنتاجه الفكري؛ فلا يزال مسؤولاً كامل المسؤولية القانونية في تعويض الغير متى ما تسبب لهم بأضرار مادية أو معنوية مثل المساس بالسمعة سواء كان ذلك بقصد أو غير قصد. إن الغاية من وجود مثل هذه التشريعات الدولية والوطنية هو صيانة العلاقات الودية بين أفراد الأسرة البشرية، إذ إن المصنف الفردي أو المشترك سيصبح جزءاً من التراث والفلكلور الوطني في المستقبل، وأعتقد أن الواجب الأخلاقي على الأسرة البشرية حماية تراث الأجيال القادمة من كل ما من شأنه المساس بحقوق الآخرين على نحو تتلاشى معه العادات والقيم الاجتماعية الراسخة. وهذه الغاية استحضرها أعضاء اتفاقية برن، عندما شددت على أحقية الدولة العضو في حماية المصنفات التي انتهت فترة حمايتها باعتبارها أصبحت جزءاً من الملك العام. محامٍ