الحرب هي الحرب، ليس من تفسير لهذه الكلمة غير فعلها المعروف. والاستعمار هو الاستعمار، كلمات في غاية الوضوح، لا يمكن تغليفها بدلالات موحية، كما يفعل الشعراء، ومع ذلك، جاءت هذه الكلمات تحمل في أهابها وتفسيرها، عبارات موحية تسوغها وتبرر فعلها مثل:... ... (الديمقراطية)، نشر (المعرفة)، محاربة (الفقر)، و(التجارة الحرة). هذه الكلمات الموحية، هي بمثابة الوقود لناقلات الجنود التي تنتشر عبر البحار واليابسة، ومن ثم، الوقود للناقلات عبر الجو. لقد تشكل شمال نابض بالمعرفة والعلم وحيوية التفكير، وجنوب غني بمكوناته الطبيعية، لكنه خامل فقير من كل ما يمتلكه الشمال. هذه الحقيقة، تؤكد نظرية ذلك العبقري العربي (ابن خلدون)، فيما يتعلق بإنثروبولوچيا الشمال والجنوب، (حياة المدن والإنسان في الشمال والجنوب). وكما أن للاستعمار أدواته، وللحروب آلياتها، فإن العالم المعاصر يشهد نوعًا من الحرب، تدور ضمن مسميات، لمؤسسات دولية، هدفها الاستمرار في استلاب أصحاب الحقوق الطبيعية، التي تتميز بالثراء الطبيعي، في مقابل حجب العلم والمعرفة عنهم، واعتبارهم مجالاً حيويًا للاستلاب والاستيلاء، وأن يعيشوا مجرد توأم ينمو مع نمو مكونات طبيعتهم الثرية، ليتم الاستيلاء عليها، ضمن مسميات لآلية الحرب والاستعمار التي بدأت تظهر بقوة، في ثقافة هذا العصر. من تلك المؤسسات، منظمة التجارة الدولية، وذراعها المكين (الملكية الفكرية)، امتلاك الفكر والتمكن منه، في مقابل الاستيلاء على الحقوق الطبيعية والموروثة، لأناس حارسين على مناجم طبيعية تفوق عقولهم. فما هي قضية حقوق الملكية الفكرية التي تدق عقولنا كل يوم؟ ومن ثم يُفرض علينا أن نبحث مع أصحابها، عن مقعد لنا في قطارها القادم أصلاً إلينا. يجب تبسيط هذا المصطلح الذي تنطوي تحته منظمات اقتصادية وإنتاجية عديدة، للقارئ غير المتخصص. فمنذ أن أصبحت التكنولوجيا الجديدة أفكارًا، ووسائل قابلة للنقل والانتشار، اتجهت الدول الصناعية إلى التفكير في إجبار الدول النامية، على أن تتفاوض على إطار قانوني يحمي منتجاتها. وعقد في عام 1986 اجتماع أوروجواي الذي نشأ عنه المشروع العام للاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة، المعروفة تحت اسم مختصر هو الجات GATT وطرح خلال ذلك الاجتماع التفاوض حول اتفاق يتعلق بالملكية الفكرية، بهدف عولمة معايير الحماية، وتطوير التشريعات المحلية في الدول المتقدمة، وجعلها معايير دولية. ونشأ عن ذلك اتفاق الجوانب المتعلقة بالتجارة، من حقوق الملكية الفكرية، والذي عُرف بعد ذلك باتفاق التربس TRIPS، وقد دخل هذا الاتفاق بعد أن كان متداولاً، بين الدول المنتجة للصناعة والتكنولوجيا، حيز التطبيق مع نشوء منظمة التجارة العالمية في عام 1995. وقد وضع هذا الاتفاق الحد الأدنى لتطبيق معايير الحماية، في مجالات عديدة، منها: حقوق الطبع، والحقوق ذات الصلة، مثل برامج الحاسب، وقواعد البيانات، والعلامات التجارية، والمؤشرات الجغرافية، والتصميمات الصناعية، وبراءات الاختراع، والدوائر المتكاملة، والمعلومات السرية التجارية. ويعتمد هذا الاتفاق، على اتفاقات سابقة مثل اتفاق باريس، واتفاقية برن، وروما. وتم زيادة مواد هذا الاتفاق (التربس) ليشمل مجموعة من القواعد الحمائية، على محاور ومنتجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية، وكذلك فيما يتعلق بالمعرفة التقليدية بالتنوع البيولوجي، وبراءات الاختراع في مجالات الجينات والمحاصيل الزراعية، والبراءات المسجلة على منتجات ومحاصيل تقليدية، مثل فول الصويا، والأرز، والذرة، والبطاطس، والقمح، ونبات الكركم، والنباتات الطبية، ولائحة طويلة لسلالات لبذور عدد من المنتجات التقليدية، ومواطنها التقليدية هي معظم الدول النامية، وبمجرد إنفاذ اتفاق الحمائية الملكية، عن طريق تسجيل براءات الاختراع، تعود إلى شركات كبرى في دول الشمال الصناعية، سبب نوعًا من القرصنة المقننة، أو استلاب حق المعرفة التقليدية، والموروث التقليدي من أصحابه. ولقد أثار إقرار قانون الملكية الفكرية، اعتراضات المنتجين في الدول النامية، وذلك حينما تم التصديق على براءات لمنتجات لصالح كبريات الشركات في الدول الصناعية، وهذه المنتجات موطنها التقليدي هو الدول النامية. في هذا الصدد، أستشهد بقول (مارتن هور) الاختصاصي في قضايا التجارة الدولية في كتابه (الملكية الفكرية.. التنوع البيولوجي والتنمية المستدامة، حل المسائل الصعبة) الذي صدرت طبعته العربية عن دار المريخ 2004 يقول: (الموقف الذي يثير السخرية، يتحقق إذا أدى إبراء منتج أو طريقة إنتاج، إلى بيع المنتجات بأثمان أعلى نسبيًا للدول النامية (بفضل الاحتكار الناشئ عن البراءة) بما فيها الدول التي تعد مصدرًا لهذا المنتج، أو تلك الطريقة، وهذا يعني أن المنتجين والمستهلكين في هذه البلدان، يضطرون لدفع أثمان مرتفعة لسلع أسهمت بلدانهم في خلقها، بتوفير المعرفة أو المادة ذاتها). معنى هذا الكلام -مثلاً- في مجال المنتجات الزراعية، وفي مجال زراعة الأرز، في الفترة من 1982 إلى 1996، تم تسجيل 160 براءة اختراع في التكنولوجيا الحيوية عن الأرز، تعود لشركات أمريكية ويابانية، وتتحكم 13 شركة في أكثر من نصف هذه البراءات. هذا الوضع أثار سخط المزارعين، في الهند وتايلاند، ضد الإبراء في مجال الأرز، خاصة الأرز الباسمتي الذي يرتبط بالهند أساسًا، إذ تقوم بإنتاج 650 ألف طن من هذا الأرز، وتصدره إلى أكثر من 80 دولة، وهناك في الهند وحدها سبع وعشرون سلالة من الأرز الباسمتي، ويعتبر ملكية حيوية وتراثية لمزارعي هذه القارة، الذين طوروه على مدى السنين، لتجاوبه مع طبيعة البيئة الحاضنة له. وكمثال للقرصنة الحيوية المنتشرة تحت شعار حماية الملكية الفكرية، حصل مركز بحوث الأرز في تكساس، على براءة اختراع عن سلالات الأرز الباسمتي، وفي هذا اعتداء واضح على حقوق أهل الأرز الأصليين، بما منحتهم لهم طبيعتهم على مر العصور من تميز وإرث في زراعة هذا المحصول، وتوليد سلالته، فليس فيما قدمه مركز أبحاث تكساس اختراع أو ابتكار ولا يحزنون، وقس على ذلك في مجالات زراعات تقليدية، ونباتات مثل نبات (الكركم) الذي يرتبط أيضًا بالهند، انتزع العلماء الأمريكيون، براءات اختراعات عن الكركم، في علاج المفاصل والجروح والالتهابات، بينما الهنود -ومنذ آلاف السنين- يعالجون بهذا النبات أمراضًا عديدة. وما ينطبق على نبات الكركم، ينطبق على نبات، يتمتع بشهرة واسعة في الهند، منذ آلاف السنين أيضًا، ويعتبره الهنود شجرة ترقى إلى مستوى التقديس، ويشيرون إليها على أنها (الشجرة الحرة في الهند). هذا النبات اسمه (النيم)، وينمو في معظم الأراضي الهندية وصحاريها، ويستعمله الهنود منذ أكثر من ألفي سنة كعلاج لعديد من الأمراض. ومن أطرف تلك البراءات التي تتسارع مراكز البحوث، في الدول الصناعية المتقدمة، على الحصول على براءات اختراع، حصول شركة يابانية على براءة تتعلق بنبات (الملوخية)، الذي يُزرع في المناطق العربية، وسوف نفاجأ بمن يسجل براءة اختراع تتعلق بالتمور، ومن ثم نقول هذه بضاعتنا ردت إلينا، فهل نتحرك للبحث فيما لدينا، ونسجل براءات علمية عليه، وهل لدينا أبحاث متقدمة فيما تجود به أراضينا من نباتات، أم ننتظر حتى يأتي من يختطفها، ويجري أبحاثًا عليها، وتعود إلينا في شكل منتجات ندفع أثمانها مضاعفة؟! ومن المجالات الحيوية، التي تتأثر بإنفاذ اتفاق (التربس)، حقوق الملكية الفكرية، مجال صناعة الأدوية، وسوف تتأثر مجموعة من الدول النامية في هذا المجال، مثل الأرجنتين، البرازيل، الهند، المكسيك، كوريا، وتايون، بخسائر تقدر ب5.3 بليون دولار كحد أدنى، و8.85 بليون كحد أقصى، وفي مقابل ذلك، سوف تتضاعف مكاسب الدخل لأصحاب براءات الاختراع المنتجة الأجنبية إلى 1.2 بليون دولار كحد أدنى، و4.14 بليون دولار كحد أقصى، وسوف يسبب هذا الوضع ما يُشبه الكارثة بالنسبة لسكان بلد مثل الهند، تعد أثمان الأدوية فيه هي الأرخص عالميًا. وفي ظل هذا الوضع، سوف يستطيع فقط نحو 30% من السكان، شراء الأدوية التي تتزايد أثمانها في ظل تطبيق الحماية الفكرية، وفي مصر، قُدرت الزيادة في أثمان الأدوية التي لها حماية براءة اختراع بستة أضعاف، مقارنة بتلك غير المحمية، وفي بلد مثل الأردن الذي يحاول بناء قاعدة إنتاج في مجال الأدوية، ستتناقص معدلات إنتاج الأدوية، وستتضاءل فرص البحث العلمي والتطوير، وسترتفع أثمان العقاقير بسبب الاحتكار من قبل صاحب البراءة، إنها نوع من الحرب الأخرى. وبعد، كيف تم فرض هذا الاتفاق الدولي، الذي جاء إلينا، كما تأتي الحروب؟! وهل تم التفاوض بشأنه مع كل الدول، أصحاب الحق في تنفيذه؟ الدكتورة (فاندانا شيفا) زعيمة وناشطة بيئية على المستوى الدولي، لها العديد من المؤلفات حول هذا الموضوع، نَشرتُ لها كتابًا مهمًا بعنوان (حقوق الملكية الفكرية.. حماية أم نهب). (سنة 2005.. تقول في تعريف اتفاقية حقوق الملكية الفكرية (التربس) ما يلي: (التربس هي اتفاقية دولية لحماية الملكية الدولية، وهي تقوم مع هذا، على فكرة مقيدة جدًا للابتكار. وبالتحديد فهي منحازة للشركات متعدية الجنسيات، وضد المواطنين بصفة عامة، وفلاحي العالم الثالث، والقاطنين في الغابات بصفة خاصة. إن الشعوب في كل مكان تبتكر وتبدع. ففي الواقع، يجب أن يكون الفقراء الأكثر ابتكارًا، حيث يجب أن يعملوا من أجل البقاء، نظرًا لتعرضهم لتهديد يومي. بل وأكثر من هذا، تميل التربس ضد الحاجات الأساسية، والبقاء من أجل التجارة). وحول حقيقة التفاوض بشأن هذه الاتفاقية ودواعيها، وحقيقة فرضها على أعضاء منظمة التجارة الدولية التي هي مؤسسة أمريكية في الأصل، تقول الدكتورة شيفا: (الحقيقة أنه لم يتم التفاوض حول التربس من قبل أعضاء الجات. إذ إنها فُرضت بواسطة الشركات متعدية الجنسيات التي استخدمت الحكومة الأمريكية لكي تفرضها على الأعضاء الآخرين. وهي تمثل أكثر الأمثلة الصارخة على الطبيعة غير الديموقراطية، وغير الشفافة لمنظمة التجارة العالمية. إذ إن الإطار الرئيسي لنظام البراءة في التربس، كما وضع تصوره وشكله في تقرير مشترك، وقدم لأمانة الجات في يونيو 1988 بواسطة لجنة الملكية الفكرية الأمريكية، واتحادات الصناعة في كل من أوروبا واليابان، ولجنة الملكية الفكرية الأمريكية، هو عبارة عن تحالف من 13 شركة أمريكية عملاقة، التزمت بإنهاء موضوع التربس لصالحها. وتضم اللجنة شركات مثل: Dupont, Bristol Myers, Hewlett Packard, General Motors, General Electric, Monsanto, Merck, Johnson الجزيرة Johnson, IBM, Rockwell and Warner, Pfizer. وبمجرد تكوين لجنة الملكية الفكرية، شرعت في إقناع الاتحادات الصناعية في أوروبا واليابان، بأن هناك إمكانية للتوصل إلى مدونة قواعد. وتم اقتباس المبادئ الأساسية، بحماية كل أشكال الملكية الفكرية من قوانين الدول الأكثر تقدمًا. وبالإضافة إلى تسويق الأفكار الأمريكية، ذهبت اللجنة إلى جنيف، لكي تقدم الوثيقة إلى موظفي أمانة الجات، وممثلي عدد كبير من الدول المقيمين في جنيف). وبعد.. ماذا نحن فاعلون، ربما نصحوا على وقع خبر، عن تسجيل براءة اختراع لتوليد سلالة من تمور (الخلاص) أو (النبوت)، وبدلاً من (نبتة سيف) تصبح (نبتة لارسن)، مع أن أجدادنا يزرعون أنواعًا مختلفة من التمور، تتطور أصنافها منذ أن رصدها (الهمداني) في كتابه (صفة جزيرة العرب) قبل أكثر من ألف عام، ربما تنجح الهندسة الوراثية، في استخلاص نوع من تمور (الخلاص) بدون (فَصم)- أي بذور- ليصبح اسمه (الخلاص البناتي) مثل (العنب البناتي) بدون بذور، ويصبح اسمه (خلاص سميث) نسبة إلى براءة الاختراع. ما جاء في هذا الموضوع، هو نتيجة قراءات حرّة لعديد من الكتب في هذا الموضوع، لقد اشتريت حقوق نشر ستة كتب في موضوع التجارة العالمية و(حقوق الملكية الفكرية)، إذعانًا لهذه الحقوق، ونشرتها باللغة العربية منذ أربعة أعوام، حتى نكون على وعي بما نحن مساقون إليه في عصر العولمة التي تكتنف حياتنا رغمًا عنا، وحتى قبل أن نوافق على حجز مقعد لنا في قطار منظمة التجارة العالمية، حتى نتحسس رءوسنا- على حد قول طيب الذكر الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور. ولأن الموضوع مُلتبس بالهّم وبالمشاركة (الحيوية)، سأعود إليه مرة أخرى بإذن الله. E:[email protected]