لا يُعزى النجاح في جميع الحالات للعمل الجاد، كما لا يرجع الفقر في كل الحالات إلى الكسل، ولكن تبقى عوامل خارج النسق والمألوف، ومنها ما يركز على أنماط أوسع، كالقناعة والكفاية والجرأة.. رغم أن من قوانين الحياة من يطلب كل شيء، يمكنه خسران كل شيء! الإدارة الحكيمة للمال لا تتطلب عبقرية ماليّة خارقة، أو تعليماً راقياً، فقد يصنع عبقري بمقاييس الذكاء الاعتيادية كارثة اقتصادية مروعة إن لم يسيطر على مشاعره وسلوكه، كما يمكن بالمقابل لمهندس حديث التخرج أن يعرف السبب وراء انهيار جسرٍ ما؛ لأن الأمر محكوم بقوانين فيزيائية ورياضية لا جدال فيها. ورغم أنني لا أكتب في الاستثمار وعالم الاقتصاد -فلست منهم!- إلا أنه استوقفني كتاب "كيف تتعلم أصول الادخار والاستثمار"، لمؤلفه "راميت سيثي" حيث يرى أن في عالم المال، أمر مختلفٌ تماماً، عالمٌ يحكمه السلوك البشري، وما قد يبدو معقولاً لي، قد يبدو لك ضرباً من الجنون! فيستخدم البشر اليوم المال بطرق تتسم بالجنون، ولكنهم ليسوا كذلك! فلكلٍّ منا خبرات حياتية فريدة، تؤثر في الطريقة التي ينظر بها إلى المال، فمن نشأ في بيئة فقيرة يرى المجازفة والمكافأة بعين لا يُمكن لطفلٍ ثري وُلِدَ لرجل أعمال مليونير وناجح أن يرى الأمرين بها، كذلك تختلف خبرة سمسار الأسهم الذي فقد كل شيء في فترة الكساد الكبير وخاض تجارب لم يمر بها موظف شاب يعمل في مجال التقنية في مُناخ الانتعاش الاقتصادي في حقبة التسعينيات من القرن الماضي، لا يتعلق الأمر بكونك أكثر ذكاء، أو بامتلاكك معلومات أفضل، فمهما كان قدر التعليم الذي حصلت عليه، فهو قد يبعث الشعور بالخوف والريبة داخلك أو يخفيه. وكل قرار يتعلق بالمال يتخذه الشخص تفسره المعلومات التي حصل عليها وأثر هذه المعلومات في رؤيته للطريقة التي يظن أن العالم يسير بها، قلة من الناس من يتخذون قرارات مالية بمساعدة جداول الحسابات الإلكترونية "إكسل" أو عن طريق علم البيانات وتحليلها، حيث يتخذ البشر هذه القرارات في العادة على طاولة عشاء، أو خلال مقابلة عمل. فما يشكل هذه القرارات المالية هو مزيج من التاريخ والخبرات السابقة، و(الإيجو) أي دوافع الأنا والذات، والتسويق وحوافز أخرى.. ثمة سبب آخر، وراء صعوبة صنع القرارات المالية، وهو أن الكثير من المفاهيم المالية ما زالت جديدة علينا من الناحية التاريخية، فمفهوم التقاعد مثلًا، لم يكن معروفاً في الوعي الأميركي العام حتى ثمانينيات القرن الماضي. ولم تكن مصروفات التعليم الجامعي لديهم بهذه الضخامة حتى مطلع القرن الواحد والعشرين، فلا عجب أن اتخذ الكثيرون قرارات سيئة بشأن القروض الدراسية؛ حيثما لم يكن لديهم من الخبرة ما يكفي قبل أن يدخلوا الحياة العملية حينها! كلنا نرتكب أفعالاً جنونية بشأن المال لأننا لم نفهم الحياة وآليات عمل المال بعد، فما يبدو لك جنوناً قد يكون أمراً معقولاً بالنسبة لي، وجميعنا نعتقد في النهاية أننا عقلاء مع المال! وكذلك عاملا (الحظ والمجازفة) وهما شقيقان توءمان، ووجهان لحقيقة واحدة، ألا وهي أن كل نتيجة توجهها قوى متعددة ومترابطة، وهذا يعني أن دور بذل الجهد في تحقيق الثروة لا يعني الكثير. في نجاحات "بيل غيتس" قد يرتبط ذلك بأنه حادّ الذكاء ومجتهد، لكن الحقيقة أيضّا أنه صادف حظُّا مواتيًّا وفرصةً نادرةً وقت انطلاقة التكنولوجيا في هذا العالم، فعندما كان فتى يافعًا، درس في مدرسة "ليك سايد"، وهي إحدى المدارس الثانوية النادرة في العالم التي كانت تملك جهاز كمبيوتر حينها، وهكذا سنحت له الفرصة لكي يصقل مهاراته، ويفكر في بناء مستقبله بطريقة مختلفة، لأن مدرسته كانت مختلفة، وبعد أكثر من أربعة عقود بلغت قيمة "مايكروسوفت" تريليون دولار تقريبًا. وفي نفس المنعطف، نذكر "كينت إيفانز" وهو أقرب أصدقاء "بيل غيتس" في الصف الثامن، ووفقاً لما يرويه "غيتس" نفسه، أنه كان أفضل طالب في الصف، إذ كان يتمتع بمهارات فائقة كجهاز الكمبيوتر، كما كان فائقاً بالدرجة نفسها من حيث الطموح والموهبة في مجال الأعمال ولكن نهايته كانت مختلفة تمامًا عن نجاحات "غيتس"! لقد اختبر كل من "غيتس" و"إيفانز" حقيقة أن الحياة يمكن أن تخضع لقوى خارجة عن سيطرتنا، وإن كانت في اتجاهات متعارضة، فالحظ والمجازفة موجودان لأن العالم مكان ذو أبعاد معقدة، حيث لا يمكن أن تحقق 100 % من أفعالك، 100 % من النتائج التي ترغب في الحصول عليها. فما من شيء أبدًا يكون جيدًا أو سيئًا بحق كما يبدو لك، وذلك لأنه من الصعوبة بمكان أن تحدد أي الممارسات والسلوكيات تؤدي إلى الفشل أو النجاح. ختامًا، نحن نميل إلى تأمل أمثلة مختلفة في النجاح والفشل لكي تلهمنا، وكلّما كان المثالُ غريبًا، كان أقل قابلية لتطبيقه علينا بشكل شخصي، حيث لا يُعزى النجاح في جميع الحالات إلى العمل الجاد، كما لا يرجع الفقر في كل الحالات إلى الكسل، ولكن تبقى عوامل أخرى خارج النسق والمألوف، ومنها ما يركز على أنماط أوسع، مثل القناعة والكفاية والجرأة، رغم أن من قوانين الحياة أن من يطلب كل شيء، يمكن أن يخسر كل شيء!