لا ندري كم مرّة استخدم بيل غيتس كلمة «الحظ» في حواره مع ريكاردو كرم على شاشة «المستقبل». فالكلمة تكررت كما لو أنها لازمة، يردّدها «العبقري» بشيءٍ من «الخفة» وبكثيرٍ من الطمأنينة. افتتح بيل غيتس أجوبته بعبارة «أنا محظوظ»، واختتم حديثه بها. فبدا اعترافه بتأثير هذه القوة الخفية في حياته «شواذاً» وضرباً من ضروب «اللايقينيات» وخرقاً للمعايير الراسخة في ثقافة المشاهد العربي. فمعظم «النجوم» العرب يرتابون من هذا المفهوم، ويتعاملون مع الحظ على أنه «تُهمة»، فيصرّون في لقاءاتهم التلفزيونية الأسبوعية، واليومية أحياناً، على أن «إنجازاتهم» و»ثرواتهم» جاءت نتيجة طبيعية للجدّ والتعب واللهث خلف أحلامهم في إثبات مواهبهم «الخارقة». إطلالة بيل غيتس بدت أقل تكلفاً من إطلالات نجوم الصف الثالث والرابع والعاشر من مشاهير الفنّ والسياسة على محطاتنا اللبنانية. كلامه يختلف عن كلام «نجوم» يتقافزون من برنامج إلى آخر ليتحفونا بالأحاديث عينها، حتى بات المشاهد يعرف أجوبة الضيوف مسبقاً، قبل أن يجيبوا عنها. فالرجل الذي جعل من الغريب مألوفاً ومن المعقّد بسيطاً، لا يعترف بالحظّ فحسب، بل يصرّ على ابتسامته كما لو أنها مفتاح نجاحه. وعلى رغم «ضخامة» اسمه، تبدو ذاته غير متضخمة. فلا هو يدعي أنه أسطورة حيّة، ولا يرى حاجةً في فائض المال الذي يملكه، فوهب نصف ثروته إلى المساعدات الخيرية حول العالم. أمّا أولاده فلن يترك لهم سوى جزء بسيط من ثروته حتى لا يفقدوا الرغبة في أن يشقوا طريقهم بأيديهم، بينما ستُصرف البلايين في دعم الأبحاث العلمية واللقاحات والقضاء على الفقر والجوع والأمية، عبر جمعيته المعروفة «بيل وميليندا غيتس». بعد هذا الحوار، لم يعد صاحب الثورة التكنولوجية العظمى، صورةً متخيلة في أذهاننا. والحقيقة، أنّه كسر الصورة النمطية لدينا عن الشخصيات العظيمة، أو لنقل «الاستثنائية». فالعبقري ليس بالضرورة «مجنوناً»، والمتفوق ليس متجهماً، والمشهور ليس مغروراً، والثري ليس دائماً أنانياً، ومنمقاً. جاء حوار بيل غيتس مع ريكاردو كرم في وقته، على عكس ما قالته الإعلامية منى صليبا في حلقة أول من أمس من برنامج «منّا وجرّ». فمقدمة النشرة الإخبارية رأت لو أنّ محطة «المستقبل» أجلّت بثّ اللقاء مع بيل غيتس إلى ما بعد «عجقة» الانتخابات البلدية، لأنّ اللبنانيين منشغلون بأخبار المرشحين والضيوف السياسيين، فلم يهتموا للتعرّف إلى بيل غيتس أو الاستماع إلى قصة نجاحه المبهرة، وهو الشخصية الأكثر ثراءً وتأثيراً في العالم. وزميلتها على الطاولة، تُدعى إنغريد، اعتبرت أنّ أسئلة ريكاردو كانت «مبرمجة» جداً وعابت على الحلقة إيقاعها السريع، كأنها لا تُدرك أنّ الضيف هو رجل «البرمجة» الأول في العالم وأنّ الحوار مع شخصيات بحجمه له أدبيات خاصة تستجيب لشروط الضيف و»ثقله». فالمدة التي أعطاها غيتس لمحاوره تُقدّر بنصف ساعة، وهذه الفترة الزمنية في حسابات صاحب «مايكروسوفت» تُساوي 450 ألف دولار، هو الذي يكسب 250 دولاراً في الثانية و15000 دولار في الدقيقة. توقف «منّا وجرّ»، البرنامج الذي ينتقد البرامج التلفزيونية الأخرى، عند حلقة بيل غيتس من دون أي تحليل عميق لهذه الشخصية العالمية التي اكتشفها المشاهد العربي للمرة الأولى على إحدى محطاته. لم تشمل الانتقادات أي تحليل للحدث، فاكتفى المقدّم بيار ربّاط باعتبار الحوار «سكوب» (سبق صحافي) بينما انتقد زملاؤه كلّ ما عداه. علّق أحدهم على الصورة والتقنية، فأرادوا لغيتس إطلالة «صاخبة» تطغى بألوانها وزعيقها على صوته وكلماته، غير مدركين أن الشخصيات الكبيرة لا تحتاج كلّ تلك «البهرجة» التي تنتهجها البرامج مذهباً للتعويض عن هشاشة الضيف وضعفه. كان من الأجدر لو أن أحد أعضاء فريق «منّا وجرّ»، هذا البرنامج المشاهد تلفزيونياً، علّق على شخصية بيل غيتس المرنة والمتواضعة والمتفائلة، أو ربما على الدروس التي يمكن الاستفادة منها، لعلّه يحض المشاهد على إعادة متابعة الحلقة المتاحة إلكترونياً، بدلاً من إقناعه بأنّه لم يخسر شيئاً كثيراً حين فوّت هذا الحوار «الاستثنائي». لقاء بيل غيتس ليس حدثاً في مسيرة ريكاردو كرم الإعلامية فقط، وهو الذي التقى ملوكاً وأمراء وفنانين وأثرياء من العالم كله، بل إنّه حدث تلفزيوني يُحسب لقناة «المستقبل» في ظلّ «كبوة» تعيشها منذ فترة. هذه الإطلالة التلفزيونية البسيطة جداً، في شكلها ومحتواها، جاءت لتُغيّر، ولو لنصف ساعة فقط، «الحتميات» التلفزيونية الساذجة، ونجحت في أن تُقدّم للمشاهد العربي صورة عن «عظماء» لا يختلفون عنّا كثيراً.