لا يمكن الجزم بأن ما يبدو تناقضاً بين الاختلال العقلي والعبقرية قد يصف علاقتهما على وجه اليقين، كما أنه لا يملك القدرة على إزالة ذلك الغموض الذي يكتنفها ولا يستطيع توصيفها بدقة ووضوح، لاسيما وليس ثمة تعريف متفق عليه للعبقرية. ولذلك فإن الحالة العقلية التي يعانيها المبدع بوصفها محفزاً للعبقرية شأنها في ذلك شأن الذكاء المتقد، والظلام الذي يخيم على روعه ويهبط به نحو القاع، والقلق الذي يقطن عقله ليملأه بالخصوبة، موضع مسرة كما هي موضع ألم. مبعث ذلك هو يقينه بأن ما سينبجس عن تلك الكتلة من الأفكار الملتبسة التي ترهقه والصور التي تموج في مخيلته ويكتظ بها خلده سيكون مدهشاً على نحو ما، وأن ذلك سيحيل النسيج المتشابك والمظلم الذي يبدو كعش مهجور في رأسه إلى دائرة ضوء متوهجة ما يورثه نشوةً وسعادة تحلقان به بعيداً، وتخلقان له أفقاً ينفث إليه ما يثقل رأسه، ويورثه بعضاً من التوازن النفسي الذي ينشد كما أنه يعلم أن ما يبقي على عقله قلقاً ومنهكاً هو ذاته الذي يجعل حياته صاخبة ومشعة. وذلك لأن ما يخبو عادةً أسفل رقاقة الأمزجة السوداوية ويتأهب لإيقاد الإبداع حالما تهب نسمة تحفزه هو أحد أجمل الأشياء التي تهبها له الحياة رغم ضراوته وقسوة أثره، ولذلك فهو دائماً ما يكون مديناً لذلك الاختلال البيولوجي الذي ما إن يهدأ ويستعيد توازنه حتى يكتشف اختلال العالم من حوله، ككثر غيره خلدت أعمالهم هذه الحقيقة. وياللعجب حين نعلم أن أحد أكثر الأشياء التي يمكن أن تشعرنا بأن الحياة تتداعى وأن فكرة كالعقلانية هي أمر سخيف هو معرفتنا بأن اختلالاً ما يمكن أن يخلق إبداعاً مبهجاً فيما تدفع العقلانية نحو تفشي الشرور وتنامي الألم عبر هذه البقعة المكورة من الكون. إن المبدع الذي يحاول أن يغرز شكوكه في أي شيء حتى يثبته ويطارد يقينه السابح في هذا الفضاء حتى يعثر فيه على ما يعينه على مقاومة هذا الضجر والسؤم اللذين يملآن الكون يظفر عادة بما يمكن اعتباره ثورة إبداعية في مجال ما يمتد فضلها إلينا، لكن ذلك الاختلال الذي يعينه عادةً لا يلبث أن يرديه ويضرم في عقله ناراً حارقة. وهو ما عناه الفيلسوف الفلورنسي مارسيليو فيتشينو حين ذكر بأن السوداوية ثمن لا بد من دفعه كي تنجح المساعي البطولية في عبور الفجوة التي تفصل بين الطبيعة المتناهية والزائلة والطبيعة الخارقة اللامتناهية الخالدة والتي لا يمكن عبورها بعقلانية. ما يجعلنا نعتقد أن كل قيمة تضاف إلى هذه الحياة وتسهم في الدفاع عن القيم النبيلة والمبادئ الرفيعة وأن التفاني في تحقيقها عبر كشف عبقري هي مهمة بالغة التعقيد يتصدى لها بالغو البراعة، وجلهم من أولئك الذين يعانون اختلالاً بيولوجياً يتمدد حتى رؤوسهم، وقد تبدو أحياناً مهمةً منهكة وغير هامة لأن عالماً حديثاً غارقاً في المدنية والمال غير معني بذلك ولن يلتفت إليه. إن اختلالاً كهذا يدفع ببالغ البراعة لأن يعيش عوالم متخيلة وشخصيات متعددة ويخبر أكواناً خلابة في مرحلة التحلل وما إن يستعيد توازنه وينفك عن عقله ما كان يجثم عليه حتى يعيد تركيب الأشياء بعد أن يكون خبُر أفكاراً متقابلة ورأى عبر نفسه ما لم ير غيره وهو ما يمكن وصفه بالتشظي قبل الاكتمال وربما كان في ذلك ما يفسر كم الجمال الذي سكبه الهولندي الشهير فينسنت فان جوخ في لوحته الخالدة ليلة النجوم بدواماتها الزرقاء التي تنساب من السماء بليونة ونجومها الملتهبة، تلك التي أبدعها في المصح العقلي وكان ينظر إلى السماء عبر نافذة حجرته ولم يكن يتخيلها كما يزعم البعض، إذ لا يمكن تخيل أن الفنان الانطباعي الذي قطع أذنه في قرار جريء ومضطرب إثر شجار مع صديقه الفرنسي غوغان الذي يخالفه عقيدته الفنية ويعتمد الخيال أساساً لإبداعه سيرسم خيالاً وهو الذي حاول أن ينتصر لجغرافيا فرشاته عبر التخلي عن قطعة من رأسه. إن قدرة عالية على الإدهاش وابتكار المذهل وإثارة العجب والدمج بين المجاز والواقع كهذه لهي جديرة بالاحترام أياً كانت ماهيتها ولكني أرى أن ليس من العقل نسبها كاملة إلى ما هو عقلاني، وأنا هنا أجنح بقوة إلى فلسفة سينيكا الذي يرى أنه لا يوجد مبدع ليس به قدر من الجنون. ولا تختلف عن ذلك كثيراً سيرة العالم الألماني ماكس بلانك مؤسس نظرية الكم التي تعد ثورة في فهم الإنسان لطبيعة الذرّة وجسيماتها وأحد الحائزين على جائزة نوبل في الفيزياء، إذ كان يعاني اكتئاباً حاداً هو إحدى درجات الاعتلال البيولوجي الذي يحدث اختلالاً عقلياً ولعل من المفارقات العجيبة هي ما كان مؤخراً من ربط كثافة الإشعاع إحدى نظريات فيزياء الكم بالأفكار الإبداعية وهو ربط لن يعدم فضله. كما أن معاناة ايزابيل الليندي في مرض ابنتها بولا كان الشرارة الأولى لالتماعها ككاتبة وذلك الحزن الذي يشكل أحد مستويات الكآبة أو الاكتئاب ودوره في خلق رواية بولا تلك الغارقة في الشاعرية والموغلة في الروح يؤيد ما ذهب إليه سينيكا. وكذلك كانت الإنجليزية فرجينيا وولف التي عانت نوبات انهيار عصبي وجنون وهلوسة كانت نافذتها التي تطل من خلالها على عوالم مختلفة عن تلك التي تحكمها القوانين الصارمة التي قهرت المرأة وكبلت قدراتها كما كانت تسري عن نفسها بعد كل فقد بانبجاسات الحبر التي تنوب عن دموعها تارةً وتخالطها أحياناً أخر. وهو ما كان عليه إرنست همينغوي صاحب (الشيخ والبحر) الرواية الخلابة التي حاز عنها جائزة نوبل وعكست درجة متفوقة من القوة النفسية حين أعادت الشيخ من البحر بما سوغ له اعتداده القديم بذاته وأعاد الثقة بقدراته إلى عقول الهازئين به رغم هرمه وهو ما يناقض ما كان يعانيه همينغوي. ولذلك كان يرى أفلاطون أن المزاج السوداوي شرط في أصحاب المواهب الخارقة. ولذلك أيضاً كان ما يحتدم في رؤوس هؤلاء ويوغل في شقائهم يمثل رغبة في استنفاد كل طاقاتهم لإضافة شيء جميل إلى الحياة غالباً ما تنجح. لست أسعى هنا إلى تنميط العبقرية لكني أعتقد أن ذلك القلق الذي يمضغ طمأنينة المبدع بهدوء وإصرار هو الثقب الذي يتفجر عنه الإبداع، وفيما تشيع العديد من الأفكار التي تنفي العلاقة بين العبقرية والاضطرابات النفسية لابد من الحديث عن أن السببية واطرادها ربما تكون ما يدفع باتجاه نتاج أكثر جمالاً، وأن رأياً ينفي ذلك بالمطلق يبدو مغالياً لاسيما وليس ثمة تعريف جامع للعبقرية كما ذكرت آنفاً.