في دروب الحياة الكونية آمالٌ كثيرة ونفوسٌ لها قوتها المتمركزة في ذواتنا، وهذه الأخيرة تدفعنا لملء العواطف المتعقلة والمنفلتة، فكل شيء في هذا الوجود يجعلنا نفكر إن نظرنا إلى كل كينونة وقعت عليها عيوننا فتجد طريقها سالكًا إلى أغوار العقل، وتجد الروح منذُ الآن منفذًا للرحابة وطليقة من سجن الجسد وهي فيه بذات الوقت والموضع، أي لا وجود انفصال ما بين الذاتين، فالروح ذات كما للجسد ذات، وكل شيءٍ جوهرٌ وصورة؛ فالروح صورتها الابتسامة والحيوية المطلقة لو حتى كان صاحبها مشلول الإرادة الجسدية نجده مفعمٌ بالنشاط النفسي، والجسد صورته الحركة النشطة برياضها وفنونها المتعددة من قوةٍ يدوية وبدنية، فإن أخفقت هذه الروح بنشاطها وتضعضعت وانكمشت نحو ذاتها؛ أتت على صاحبها أنواع الخطوب والكآبة المظلمة، فيبقى السر بالطاقة المستجابة من القوة الكونية الآتية من فضاء الكلمة (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) شملت هذه القوة كل شيء في هذا الوجود من صغيره إلى كبيره ومن جماده إلى حيوانه ومن سكونه إلى حركته؛ تخترق القلوب لتمدها بقوةٍ تُزيل الهموم وتسف الغموم وتذود عنك في ليالي الشجن وتمددكَ بعزيمةٍ تصارع فيها الوجل، إنها حقًا لقوةٍ لا تضارعها أي قوةٍ أخرى؛ فكل شيءٍ خواء إلا هي، فتلك القوة لا تجد روحها ولذتها ورحابتها؛ إلا في أحضان الطبيعة، لا في المدن ولا في مصانع الإنسان، ولعلنا هنا نقترب من مقولة الرافعي بقوله «الحياة في المدينة كشرب الماء في كوب من الخزف؛ والحياة في الطبيعة كشرب الماء في كوب من البَلُّور الساطع؛ ذاك يحتوي الماء، وهذا يحتويه ويبدي جماله للعين» نعم صدق قوله. إذ في الطبيعة ترى ليلتكَ؛ القمرين في وقتٍ معًا وورائها أنجمها بظلالِ نورها وحسن منظرها، وحين يجيء الصباح ترى الشمسَ طالعةٌ مجتمعة بأهدابها الذهبية تشرق على كواكبها بزهو أصداف الأجواء العالية، وإن كنتَ في شاطئ البحر لرأيت لونه يشبه لون السماء بأكاليلها البيضاء؛ حيث سحبها الجميلة تجري مع النسائم العطرية. زرقة البحر وبياض الثلج وخطواتٍ من الماء بين تربة الحشائش الخضراء والورود المبتسمة الماثلة المتشخصة كغزلان الربيع؛ تُبهج عيونكَ وتمتلئ نفسك بنغم الحياة الحقيقية. إنه سحرٌ ما بعده سحر، ينبئك بأسرار الكلمة إن حفظتها انفتحت لك خزائن الدنيا (وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ). هي الرحابة حين تنفلق من ضيق سجنها إلى سموها الأعلى تنداح نحو قوةٍ عظمى؛ قوة رب هذا الكون حافظُ نواميسه وأسسه، وأما ما دون هذا فليس على المرء إلا السلام والتجحر بتفاصيل الأوهام وصغائرها. تأمل وفكر بقوة الأشياء وحقيقة ما وراءها؛ لا الأشياء بواقعها الخارجي. وهنا نتوقف مع أبي العلاء المعري ونختم بمقولته: والذي حارت البريةُ فيه حيوانٌ مستحدثٌ من جمادِ واللبيب اللبيب من ليسَ يغتر بكونٍ مصيرهُ للفسادِ