لقد تعسف كثيراً كل من فصل بين المعرفة والحياة، فالحياة في أدنى صورها وأبسطها لدى الحيوان والنبات وحتى الجماد، تنطوي على معرفة ما. والمعرفة في أدنى مستوياتها ضرورة من ضرورات الحياة. وعندما تصل المسألة الى الإنسان، الذي يتحول تدريجاً في نهر الزمان، من بشر الى انسان، بقدر ما يكتسب من معرفة وما يبدع في حياته من أنماط وعلائق، فتصبح المعرفة بذاتها حياة وتصبح الحياة معرفة. فالمجرد والمشخص، الذاتي والموضوعي، الأنا والآخر، الغيب والشهود، الظرف والمظروف، العارف والمعروف، الروح والجسد، مضامير تلعب عليها المعرفة الإنسانية في حركة دائمة ودائبة، وهي هي الحياة في الدنيا والآخرة "هلك خزان الأموال والعلماء باقون ما بقي الدهر... العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الانفاق". ذلك التعسف تبعه تعسف آخر، لاح للحظة، وكأنه أمر منهجي، ألا وهو فصل المستويات المتعددة للمعرفة الى أبنية متفارقة أو متقابلة، ما اقتضى عملياً فصل مستويات الحياة الى أنصبة متناقضة... وانه وان كان مخيفاً أن تصل مسألة البيئة الى هذا المستوى من التعقيد والخطورة، فإن المفيد فيها هو أنها تجبرنا على اعادة النظر في المسألة السالفة، مسألة الفصل بين المعرفة والحياة، بين معرفة ومعرفة، بين حياة وحياة. "ان تاريخ البيئة تاريخ جامع للتخصصات، وهو ذو أبعاد، ليس في التاريخ وعلم الآثار والجغرافيا فحسب، وإنما أيضاً في علوم الأرض والعلوم البيولوجية والطبية. وهو ميدان تمخض عن واحد من أقدم التحالفات بين التخصصات في الزمن الأكاديمي الحديث، ألا وهو التحالف بين التاريخ والجغرافيا، حيث يوجد التاريخ على الحدود بين العلوم الاجتماعية والعلوم الانسانية، وتوجد الجغرافيا على الحدود بين العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية. هذا في حين أن الإتجاه التوحيدي الإيماني في تعبيراته المبكرة، لدى الفراعنة مثلاً، كان يرى المتعدد تجلياً للواحد، فيعنى بكل واحد، لأن فيه روح الواحد. ومن أناشيد الموت الفرعوني: عندما يصير الزمان الى خلود سوف نراك من جديد، لأنك صائر الى هناك، حيث الكل في واحد". ربما كانت هذه الرؤية التوحيدية أحد الكوامن أو البواعث الرئيسة التي جعلت الفرعون يصدر قانوناً لحماية البيئة، ولعل قراءة متأنية للتاريخ القديم، من دون استعلاء علمي معاصر، تجعلنا ندرك أن علاقة الأقوام البدائية ببيئتها، بمحيط حياتها، أكثر جمالاً واتساقاً، كأنها الفطرة التي على العلم أن يصونها فلا تضطر أن تعتصم بنفسها بعيدة عنه لتسلم. لأكاد هنا، أن أرى، في عبادة الريح والشجر والحجر والشمس والقمر ومنابع الخير والشر والخوف والرجاء والعزاء وسذاجتها، معرفة ما، أقل تجريحاً من هذه المعرفة العلمية الهائلة الذاهبة أفقاً وعمقاً خارج القلب والذوق والروح والوجدان والفن، الى خراب معمور بالقتل وكل ما هو شاهق وقاتل، يطال موجودات الكون ومكوناته المادية والمعنوية، ويطال ايقاعات الجمال وأنساقها المختلفة المؤتلفة على نظام كوني رحب ومتوازن ومتزن... لقد كان رجال الغابة في ناميبيا يثيرون غضب إلههم إن هم قتلوا من الحيوانات أو جمعوا من الثمار ما يزيد على حاجتهم، وأعلن الأراندا في استراليا أن جميع المواقع الكائنة في حدود كيلومترين في مستوطنتهم مواقع مقدسة، والملك البوذي أسوكا 247 - 242 ق.م. أصدر مراسيم تضم قوائم بالحيوانات التي يحظر قتلها، وخصص غابات للفيلة جعل عليها حراساً... والجانتي الصالح في عقيدة البراهما، "لا يزرع لأن الزراعة تمزق التربة وتسحق الديدان والحشرات، ولا يأكل الجانتي العسل لأنه حياة النحل، ويصفي الماء قبل شربه خشية أن يقتل ما كان عالقاً فيه من كائنات، وهو يغطي فمه حتى لا يستنشق مع الهواء أحياء فيقتلها، ويحيط مصباحه بستار حتى يقي الحشرات من لذع النار... انه التزام، قد يراه البعض مبالغاً فيه، ولكنه التزام بالحفاظ على التوازن الطبيعي، حفاظاً على البيئة. تدخل في مفهوم البيئة وتعريفها وتكوينها محددات عدة، وتكاد الأرض أن تكون الحيّز الأوسع في التعريف، أو تكاد أن تكون اختزالاً مكثفاً لمجموع المحددات. من هنا ترتقي الفلسفات والآداب لدى الشعوب كافة، وفي كل الأزمنة، بالأرض من مستوى الشرط المادي المحض، الى المستوى الروحي، وتبرز هذه المسألة في الأديان كافة والأديان السماوية خاصة، وبأشكال وتعبيرات متعددة حين تحاول أن ترسم أفقاً للرؤية الإيمانية وحركة الأنبياء. وليس صدفة أن يكون أكثر الأنبياء رعاة وأهل بريه. ويضع القرآن الكريم الأرض ومحمولاتها المتصلة بها اتصالاً رحمياً، في إطار منظومة كونية، بحيث يمسي الإخلال بنظامها وانتظامها وقوانينها وسننها اخلالاً بالتكليف، يأتي من فراغ في الروح وخلل في الإيمان، ما يمكن أن يعتبر إضافة للروح العامة والروح الإنسانية الى محددات البيئة. ونقرأ في التنزيل أمثلة من قبيل "الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان، والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان... والأرض وضعها للأنام، فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام، والحب ذو االعصف والريحان" سورة الرحمن... ويشبه القرآن المعرفة في سلامتها ورسوخها ونتاجها الحضاري المتوالي بالشجرة وعلاقتها بالأرض، رسوخاً ونسفاً ونمواً وحياة، في صورتي السلب والإيجاب، يأتي ذلك من ضمن مطابقة القرآن بين حركة الطبيعة وحركة الاجتماع ومركز الأفراد والجماعات وحياتها، "ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها في كل حين بإذن ربها... ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون" ابراهيم 24 - 25. وتتجه المنظومة المؤتلفة على اختلاف ونظم وتناغم نحو الخالق مسكونة بشق واحد ولغة واحدة "ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس..." الحج 18 وكأن الفطرة في تكوين الكائنات هي الوصلة الثابتة، وهي لدى غير الإنسان تبقى على حالها لا تشوشها غرائز ولا نزعات ولا شهوات، حتى لدى الحيوان الذي ربما تكون غرائزه أكثر انتظاماً رغم مظاهرها القاسية أحياناً، بينما، لدى الإنسان، تنقطع الوصلة بالنزوع الى المخالفة وتغيير نظام الأشياء، فيكف بعض الناس عن السجود والتسبيح، ويذهب البعض تخريباً في البيئة ومكوناتها، وإسرافاً في استهلاكها "وهو الذي أنشأ جنات معروشات والنخل والزرع مختلفاً أكله والزيتون والرمان متشابهاً وغير متشابه، كلوا من ثمره إذا أثمر واتوا حقه يوم حصاد، ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين" الأنعام 141. ويخرج يونس النبي من بطن الحوت الى فضاء الأرض وعرائها، فيرى ويتنفس وتعود اليه حيويته وتظلله شجرة اليقطين، فيرتاح ويأتي كلام رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم تلخيصاً وتركيزاً وختاماً وختماً على الوحدة الكونية مصدراً وحياة ومآلاً وحركة وحواراً ومضارعة للتوحيد... يستطلع مكة في طريقه اليها يوم الفتح من على ظهر بغلته ويخاطبها خطاب الرحم والذاكرة والرفقة والعناء المشترك والحيوية المتبادلة "ولولا أخرجت منك ما خرجت". انه التواصل، أو اعادة اللحمة، مع المنبت الذي لا ينْبتُّ. وعندما يلتقي في مهجره في المدينة أحد القادمين من مكة يستخبره عن أدق التفاصيل فيحكى له عن أعشابها وأشواكها فيثر الشوك شوقاً نبوياً صافياً "واغرورقت عيناه بالدمع". قال: "يا أبان كيف تركت أهل مكة؟ قال: تركتهم وقد جيدوا، تركت الإذخُر نوع من البقول وقد أعذق وتركت الشُمام نبات ضعيف، وقد خالص" ويسكنه أبو قبيس الجبل الذي يشرف على مكة، وفيه غار حراء الذي التحمت الرؤية بالرؤيا فهبط جبريل حاملاً البشارة "أبو قبيس جبل نحبه ويحبنا". وأثناء تجواله في حواريها يداري عن رسالته عناد أهلها ونكرانهم وهجرانهم فيكشف عن وشيجة مع محتوياتها الصامتة، تكشف الى أين يصل في توحيده وتوحده يقول: "كان في مكة حجر يكلمني ويسلم علي" ويستقر به المقام على طمأنينة ذاتية وقلق على الآخر من ذاته ومن الآخر وعلى النظام الكوني المنسق الجميل. فيقول: "اخرج يا علي فقل عن الله لا عن رسول الله: لعن الله من يقلع السدر شجر واستوصوا خيراً بعمتكم النخلة". إذاً هناك صحبة ونسب مع الشجر ولغة. كل ذلك يستدعي حفاظاً وحفظاً، وترقى البيئة الى مستوى الدين والروح والشرع، حلالاً وحراماً وواجباً وكراهة وندباً، وإذا ما بقيت حساباتنا مع البيئة حسابات أرقام وناتج مادي مباشر، فإننا سنبقى ذاهبين فيها وفينا تشويهاً وتخريباً حتى الموت... حتى موتنا، روحاً وجسداً ومعرفة وفناً وجمالاً، والحل أن نعيد للبيئة محمولاتها لتعيدها الى نظام سلوكنا الشرعي والإيماني والقانوني والحضاري. ويصل الصدى الى أبي تمام "رعته الفيافي بعدما كان حقبة "رعاها"، ويشتاق السياب الى رحمه "واحسرتاه متى أنام؟ فأحس أن على الوسادة، من ليلك الصيفي طلاً فيه عطرك يا عراق؟"، ومن دون شروط "الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلامْ، حتى الظلام، هناك أجملُ، فهو يحتضن العراق". وهل هناك شروط على الرحم؟ "قال يا رسول الله ان أمي سيئة الأخلاق، قال: وعندما حملتك كانت سيئة الأخلاق"... وتعرف، نعرف أن فلاحينا الذين عانوا الأرض رعانتهم، زرعوها وزرعتهم، حتى اخشوشنت بخشونتها راحاتهم وارتسمت في جباههم غضونها، وطهرت ولانت دواخلهم كما دواخلها، كانوا لا يبيعون أرضهم إذ أمحلت ولو جاعوا... ويجعلونها مهراً لعرائسهم... بينما تجار العقارات، الذين لم يعانوها، يشترونها على الخرائط ويبيعونها عليها، ولا يرف لهم جفن... تحتل الأرض مساحة واسعة من النص التوراتي، ولكنها ليست الأرض التي تحبها وتحبك، تشتاق اليك وتشتاق اليها، تسكنك فتسكنها، بل هي الأرض التي تستولي عليها، تسترقها، تمسك برقبتها، تمتلك رقبتها بقدميك، وتئن من وطء قدميك، ولكنك لا تسمع وكل أرض تطؤها قدماك فقد جعلتها لك... أما من عليها، من كان فيها وكانت فيه، من البيارة الى حقل الذرة، فإنه يقطع عنها ومنها وتقطع عنه ومنه. وهنا تغيب عن التوراة علامة تميز الأديان عامة، والسماوية منها خاصة، وهي العلاقة الحميمة بالأشياء والألوان والروائح، ما جعل النص التوراتي والسلوك مزروعاً بالنزوع الحاد الى التخفف من أعباء التسامي الذي يكاد يكون سر الأديان جميعاً. وتنفتح تلك المساحة التوراتية على وعي مرضي مدمر، يصل الى حد تحويل الأرض الى معطى مادي صرف، لا وهج فيه ولا نبض، ولا صلة له بوهج أو نبض، وتصبح اليهودية ذريعة الى الأرض السلعة وتتراجع مؤشرات التوحيد في سلوكية اليهودي عندما يرى الى الأمم من حوله أرقاماً جافة في نظام استملاكه واستهلاكه، ويرى الدين والسياسة والعلم والشعر والحب طرقاً الى الأرض التي تستقر على نصاب وعي يهودي جارح يضعها في نصاب السيطرة بعيداً عن تلوينات الهوية ومعادلها الوجداني. وتتحول ذاكرة اليهودي، بفعل التوراة، الى أشواق مشبوبة للجسد اليهودي المزدحم بأعراض وأمراض القوة والرغبة في اجتياح الأرض وما ومن عليها من أرواح وعيون جميلة وورود متفتحة ونافحة أو على وشك التفتح، وبشر رعوها ورعتهم، "لي جلعاد ولي منسى، أفرايم خوذة رأسي، موآب مرحضتي، على أدوم أطرح نعلي، يا فلسطين اهتفي علي، من يقودني الى المدينة المحصنة، يهديني الى أدوم" مزمور 108. "قال الرب أرني، إجلس عن يميني، حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك"، "يرسل الرب قضيب عزك من صهيون وتسلط في وسط أعدائك، أقسم الرب لن يندم، أنت كاهن الى الأبد، الرب عن يميني يحطم في يوم وجزء ملوكاً، يدين بين الأمم" الخ... و"كل مكان تدوسه بطون أقدامكم يكون لكم من البرية ولبنان، من نهر الفرات الى البحر الغربي يكون تحكمكم" تثنية 11 - 24... وليس في التوراة اشارة الى خلود أو حياة بعد الموت أو ثواب في الآخرة على عمل صالح في الدنيا، بل كل ما فيها وعود بالمكافأة في الدنيا طول العمر، النسل، المال وغلة الأرض، الانتصار والتسلط على الغير والرفاهية أما المذنبون فتعدهم التوراة بالجدب وانحباس المطر والأوبئة... أي تدمير البيئة. وتبقى المسيحية في تواصلها مع أصلها التوحيدي ونصها الطقسي الباحث باستمرار عن المعادل الموضوعي للتوحيد، في الكون والإنسان والحياة، وفي روحيتها الموصولة بروح كونية... تبقى ترى في الأرض تراباً للروح غنياً باحتمالات الخصب ومثالاً مشهوداً مجسد المعلم الجليلي المولود في مكان تآلفت محتوياته ومحدداته مذود المغارة في بيت لحم بين المواشي والدواجن على نسق تكاملي... وكان المخاض على جذع النخلة ملمحاً في مولده والرجاء الأخضر الذي حمله للخراف... وكان الرطب الجني في غير أوانه ايذاناً بانفتاح قلب الأرض على أوجاع الروح والجسد، وتواصل الخصب الأرضي السري مع الخصب العذري المُخصب بالروح... ومن المذود الى البراري ومن البراري الى المثل اليومي في النص الإنجيلي ممتلئاً زرعاً وثمراً وزراعين وحصادين وصوتاً آتياً من البراري سارحاً فيها الى حيث الآفاق المفتوحة على الخلود والمحبة والعدل والعفة والفداء معمودية الماء والميرون وزيت الزيتون... "في تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية... صوت صارخ في البرية، أعدو طريق الرب، ثم أصعد يسوع الى البرية من الروح" متى 3- وقال لهم "الزارع الزرع الجيِّد هو ابن الإنسان والحقل هو العالم، الزرع الجيد هو بنو الملكوت، والزؤان هو بنو البشر، هو العدو الذي زرعه إبليس" متى 13 - "اجعلوا الشجرة جيدة فتكون ثمرتها جيدة أو اجعلوا الشجرة رديئة فتكون ثمرتها رديئة، لأنها من الثمرة تعرف الشجرة" متى 4 - ... تكاد تكون مماهاة على أساس التوحيد، بين الأرض روحاً وتراباً وبين الإنسانية جسداً وروحاً... انها الروح في البيئة التي تحفظها وتحيا بها. وفي مصر، حيث النيل، النجاشي الأسمر، هو نهر الحياة، وهو الناظم لروح مصر وأرضها وأهلها وذاكرتها وأحلامها، تندمج الطبيعة في طقس العبادة القبطية في الصلاة أصْعِد المياه كمقدارها، كنعمتك، فرح وجه الأرض... ليُروَه حرثُها، لتكثر ثمارها، أعَِدَّها للزرع والحصاد"، وفي لقان الغطاس أو لتفرح كل بلاد مصر، تتهلل بفرح من جودك، وبارك في غلات الأرض وأصعد مياه النهر وهب اعتدالاً للمناخ، ونيل مصرياً ركد في هذا العام وكل عام، ويفرح وجه الأرض بالنيل، ويعود لنا نحن البشر، ويعطي النجاة للشعب والحيوانات".