لم يكن الأمير بدر بن عبدالمحسن إنساناً عادياً، في مخيلة الآخرين، لكنه كان أيقونة رائدة بزغت معها كُل عناصر القوة في ثقافتنا المحلية والدولية والتي باتت تتكون من خلاله منارة تعريفية للمملكة. يقول في قصيدة كتبها لأخيه الأمير سعود بن عبدالمحسن (ولا بدها يا سعود بتغيب شمسي .. ذي سنة رب الخلايق فرضها).. من تابع مسيرة الأمير بدر بن عبدالمحسن -رحمه الله- سيجد ملخصاتها مذكورة في العديد من الحوارات التي تظهر ما بين فترات متباعدة، دائماً لا ينسب النجاحات الكبيرة التي حققها على مدى عقود في مجال إبداع الشعر إلى موهبته الفذّة أو إلى براعته في نظم الأشعار، فعندما تحدّث -على سبيل المثال- عن عمله الرائع «فوق هام السحب» الذي يُعد من أجمل النصوص الوطنية وأكثرها تأثيراً في وجدان السعوديين، قال: «إن الظروف المناسبة التي طُرح فيها العمل ساهمت في نجاحه إلى جانب عوامل أخرى صنعت ذلك النجاح». دائماً سمة التواضع تجمع وتبرز المبدعين المؤثرين في شتى المجالات. من المؤسف، في صباح الأمس توفي أهم رجالات الشعر العربي سمو الأمير بدر بن عبدالمحسن، ورائد الحداثة في الجزيرة العربية، من خلال النصوص الأدبية الراقية والتي جمعت الثراء والقيمة الإبداعية في مجالات عدّة بينها الاجتماعي والسياسي والعاطفي. كوّن الأمير بدر بن عبد المحسن، الملقب ب»مهندس الكلمة»، (2 أبريل 1949- 4 مايو 2024) مخزوناً ثقافياً في المملكة. حاملاً وشاح الملك عبدالعزيز «2019» حينما كرمه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز «حفظه الله». لقد نشأ الأمير بدر في بيت علم وأدب حيث كان والده محباً للعلم والأدب، وشاعراً مبدعاً، اهتم بجمع الكتب، التي كونت مكتبة ضخمة ضمت العديد من عيون الكتب، ومجلسه المليء بالعلماء والأدباء وكبار المفكرين في ذلك الوقت ما كان له الأثر البالغ في شغف «البدر» لقيادة الأدب والشعر النوعي. كانت تلك الثقافة المتنوعة عند بدر بن عبدالمحسن - رحمه الله - مختلفة كلياً، حينما درس المرحلة الابتدائية بين السعودية ومصر، والمتوسطة في مدرسة الملكة فكتوريا في الإسكندرية، والثانوية في الرياض كما درس في بريطانيا وفي الولاياتالمتحدة الأميركية، هذه التنقلات جعلت منه مفكرًا مختلفاً عن أقرانه. كثيرون لا يتذكرون انطلاقة الجمعية السعودية للثقافة والفنون، عندما عُين الأمير في منصب رئيس الجمعية السعودية للثقافة والفنون، ورئيساً لتنظيم الشعر بالسعودية عام «1973»، مزاملاً فيها طارق عبدالحكيم وعبد العزيز الحماد وناصر بن جريد وشعراء لامعين بينهم صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل ومحمد العبد الله وخالد بن يزيد ومحمد بن أحمد السديري وعبد الرحمن بن مساعد بن عبد العزيز وآخرون. كان لحتمية التعبير التشكيلي وجوه مختلفة في كل لوحة يكتسي بألوانها ومدارسها، حيث كون الأمير بدر بن عبدالمحسن - رحمه الله - من خلالها نوعاً ثقافياً مختلفاً، وهي التي ترتبط مع الشعر ارتباطاً وثيقاً، كان آخر الشغف الإبداعي في معرض «البدر» الذي دشنه صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن نايف بن عبدالعزيز أمير المنطقة الشرقية في مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي «إثراء» مقدماً فيه «25» لوحة فنية مزجت بين الحداثة والمعاصرة، إذ جمع المعرض الذي يقام لأول مرة في السعودية، مبرزاً عدّة لوحات ل»البدر» منّذ ثمانينات القرن الماضي. يقول بدر بن عبدالمحسن - رحمه الله - منّذ أن عرفت نفسي وأنا أرسم، كالحكايات المثرية التي تؤكد حقيقة مقولة سموه، وما ينسجم مع زوايا متعددة تنبض بها لوحاته، إذ شكل هذا الشغف، أيقونات تُسبغ البهجة وتثير الفضول، فهناك لوحات تبوح بأسرار التراث والصحراء وأخريات يتكئن على الطبيعة وأسرارها بتقاطعات فنّية ورؤية تعبيرية. هي نفس التجربة والشغف في حياته والمتزامنة مع الإبداع الشعري، والجوانب المشرقة التي تستحق التوقف عندها والكتابة عنها، في الإنتاج والتدفق الشعري، الذي ميز نصوصه الأدبية وحضورها وقدرتها على الإلهام والتأثير في تجارب الشعراء الآخرين وحياتهم أيضاً.. في قصيدة «البتول»: لا تظن المسافر من يسوق الرحول من وقف دون حلمه عاجزٍ ما رحل.. في تعبير فلسفي بلغة عميقة عن موضوع الرحيل، والذي لا يعني الانتقال من مكان إلى مكان آخر، كما يراه كثير من الناس، بل يعني مُلاحقة الأحلام والإصرار على تحقيق الطموحات مهما بدت للمرء بعيدة وشبه مستحيلة. هكذا كانت تتميز نصوص الأمير وقائد التنوير بدر بن عبدالمحسن بلغتها المتفردة وبكونها مُلهمة تغري المتلقي بحفظها والاستشهاد بها، كما تغري الشعراء بالتفاعل معها بصور مختلفة ومتنوعة، من أبسط مظاهر التفاعل مُعارضتها كما فعل ذلك الشاعر عبدالهادي بن راجس - رحمه الله - حينما عارض قصيدة البدر «في دربكم يا راحلينٍ مناكيف». كان في غالب الأمر تعاونات عدّة على الصعيد الفني مع نجوم التلحين وأساتذته، منهم الموسيقار طلال وسراج عمر محمد شفيق سامي إحسان وعبد الرب إدريس وآخرون، هؤلاء كونوا علامة ساهمت في ترقية الأغنية ومّد سماعها على جانب أوسع في الوطن العربي، كان ل»البدر» أولى الشراكات والإسهامات، من المطربين الذين تغنوا بقصائده طلال مداح - رحمه الله - وكاظم الساهر، محمد عبده، عبادي الجوهر، عبد المجيد عبد الله، خالد عبد الرحمن، عبد الله الرويشد، صابر الرباعي، راشد الماجد وغيرهم، وأعمال كثيرة مع كبار الفنانين العرب. مؤكداً أن هذا المشوار العريض في مساحة ثقافة الأغنية وتنميتها وتسويقها في عدّة جوانب، كان له أثره، حينما كرمت الهيئة العامة للترفيه «بدر بن عبدالمحسن» في ليلة كان عنوانها «ليلة الأمير بدر بن عبد المحسن: نصف قرن والبدر مكتمل». عندما أعلن رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه معالي تركي بن عبد المحسن آل الشيخ في العام «2019» تسمية المسرح المبني خصيصاً لهذه المناسبة بمسرح الأمير بدر بن عبد المحسن. أيضاً جاءت هيئة الأدب والنشر والترجمة في «2021» معلنة عزمها على جمع وطباعة الأعمال الكاملة الأدبية للأمير بدر بن عبد المحسن - رحمه الله - تنفيذاً لتوجيه وزير الثقافة الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، وذلك تقديراً لإسهاماته في الحراك الإبداعي السعودي خلال خمسة عقود من الزمن. وكرم «البدر 2023» في ختام مهرجان القرين الثقافي في دولة الكويت باختياره شخصية المهرجان.