كنتُ ذات يومٍ في الدنمارك لحضور ورشة عمل فنية، هناك التقيتُ بصديقتي الصينية لوسي، والتي كانت هي الأخرى فنانة، انتهت أيام الورشة وبدأت أنا ولوسي نتعرف على بعضنا بعض بشكلٍ أكبر، رغم أن لوسي تمارس الفن منذ نعومة أظفارها إلا أنها قررت التخصص في مجال آخر، وعندما سألتها عن السبب أخبرتني أنها ترى أن ممارسة الفن عملية روحية سامية تتحد فيها الكثير من المشاعر والأحاسيس لتقدم في النهاية عملًا روحانيًا / فنيًا يلمس قلوب الآخرين، لذلك متى ما تمّ -تسليع الفن- فقد انتفى معناه وبدا وكأنه عملٌ مفتعل لا يحمل خلفه أي مشاعر حقيقية، لذلك أخذت لوسي على نفسها عهدًا بأنها لن تبيع أعمالها الفنية يومًا ما حتى لو احتاجت إلى المال. وجهة نظر لوسي لم تكن جديدة عليّ، فلطالما سألتُ نفسي: كيف أحافظ على الفن بصفته فنًا حقيقيًا دون أن أحدّه من التشكل في أي مسار أرغب به؟ فبالنسبة لي ليست التجارة في الفن هي قضيتي الوحيدة فأنا أهتم أيضًا بتقديم الفن بشكلٍ مبتكر للجمهور من خلال منصات التواصل الاجتماعي وفي اللقاءات التفاعلية، لذلك كانت هذه الفكرة حاضرة في ذهني. أشعر أن بداخل كل فنان كرة متأججة ومليئة بالمشاعر تختبئ داخل روحه، فالفنان دائمًا ما يكون لديه شعور أو ربما مجموعة مشاعر خلف كل عمل فني، حتى لو كان عملًا فنيًا بغرضٍ مادي، بعبارة أخرى، لن يستطيع الفنان أن ينتج عملًا فنيًا يستحق أن يُقتنى إذا ما كان خلف هذا العمل الكثير من المشاعر، وإذا ما اعتبرنا أن مشاعر الفنان هي وقود العمل الفني، فلدى الفنان برأيي مخزونٌ لم ولن ينضب من المشاعر وإلا لما أصبح الفنان فنانًا. نقل العمل الفني لمستوى تجاري يطور الفنان بالضرورة، ويجعل منه فنانًا أفضل، الفنان الذكي هو من يوجه فنه ومشاعره نحو ما يرغب به، لا أن يجعلهما هما من يسيران به إلى حيثما يريدان. أتذكر جيدًا ما قاله أحد الممثلين عندما سئل عن براعته في تجسيد أي دور يُسند إليه، كان يقول: أنا لا أمثل، أنا دائمًا ما أجد شعورًا مشتركًا بيني وبين الشخصية التي أمثلها، لذلك يبدو أدائي حقيقيًا! إذا ما اتفقت مع ما قاله هذا الممثل المحترف فأنت بالضرورة تتفق معي بأن هناك شعوراً تستطيع أن تجده في داخلك، تلمسه وتحركه وتبني عملك الفني على أساسه. لهذا السبب يحتاج الفنانون إلى تكييف أسلوبهم الإبداعي من أجل تلبية احتياجات السوق لزيادة فرص تحقيق أرباح مادية، رغم ذلك يمكن للاحتفاظ بالتوازن بين الحرية الإبداعية والنجاح المادي أن يكون تحديًا، ولكنه ليس مستحيلاً. نصيحتي لكل الفنانين لاسيما من هم في بداية مسيرتهم أن لا يعتمدوا على الفن كمصدر دخلٍ وحيد ورئيس، الضغوطات المالية قد تجر الفنان إلى ممارسة الفن بدون روح ومن أجل أهداف مادية بحتة تجعل عمله الفني أشبه بالعمل الآلي الخالي من الحياة. في النهاية، من حق أي فنان أن يختار الاختلاء بفنه، وأن يمتهن عملًا آخر كمصدر دخلٍ له، الأمر يعتمد بالنهاية على رؤية وأهداف الفنان نفسه، المهم ألا يطغى حبك للمال على حبك للفن، وتذكر (قدم ما لديك بحب، يأتيك المال طوعًا).