لوسي صارت منذ اعوام قليلة فقط ممثلة سينمائية... لكن ليس من النمط العادي، بل ممثلة يتراكض للعمل معها بعض افضل مخرجي الجيلين الاخيرين من السينمائيين المصريين من محمد خان الى رضوان الكاشف، ومن داود عبد السيد الى سعيد حامد... حتى اليوم لم تمثل سوى عدد قليل من الافلام، لكنها سرعان ما اصبحت قضية، ومحط هجوم كبار النجمات اللواتي يخيفهن، بالطبع، انتشار هذا النوع الجديد والطازج من الممثلات. ما يجذب المخرجين الجادين الى لوسي، هو جمالها الاصيل وتعبيرها الذي يحمل المعاناة والدهشة في آن معاً، ولكن كذلك ذكاؤها الفطري الشفاف الذي سيطالعنا بعضه في الاجابات التي ردت بها على اسئلة طرحتها عليها "الوسط" في القاهرة قبل اسابيع خلال انعقاد مهرجان القاهرة السينمائي الذي شهد فيلمين تمثلهما لوسي مثلا مصر في... المسابقة الرسمية. مما كان كافياً وحده بالطبع لاثارة المعركة ضدها، وكان كافياً لاستثارة فضولنا للتعرف على هذه الفنانة المتواضعة التي لا يخيفها ان تتحدث عن اصولها الفقيرة. قد تكون المصادفة وحدها هي التي جعلت الفيلمين المصريين الوحيدين اللذين مثلا مصر في المسابقة الرسمية في مهرجان القاهرة السينمائي الاخير، يحملان بين اسماء ممثليهما الرئيسيين اسم الفنانة لوسي. وهو أمر أثار نقمة العديد من النجمات الكبيرات المتلألئات في فضاء سينما القاهرة، وجعل بعض تلك النجمات ينطلقن في حملة صحافية طريفة غايتها "تشويه" سمعة هذه "الطارئة الجديدة، بالحديث حيناً عن انها من ربيبات شارع محمد علي، وحيناً عن كونها امية لا تعرف القراءة او الكتابة، وبالتشكيك في "الاسباب" التي تدفع المخرجين الى اختيارها لدور رئيسي في افلامهم. علماً بأن المخرجين المعنيين هم عادة اما من افضل العناصر العاملة في السينما المصرية داود عبدالسيد، ومحمد خان وإما من وجوه الجيل الجديد الذي يقدم اول افلامه رضوان الكاشف وسعيد حامد. ويمكننا ان نتصور ان هذه الحملة، التي قادتها في الخفاء بعض نجمات الصف الاول، عن طريق صحافيين بارعين في بث الاخبار ونشرها، كانت واحدة من اطرف الاحداث الجارية على هامش المهرجان القاهري العتيد. والطريف ان هذه الحملة، بدلاً من ان تنسف سمعة لوسي، وتخفف من اعجاب متفرجي السينما بها، زادت من شعبيتها بشكل يكاد ينقلها هي بدورها الى الصف الاول. فاذا اضفنا الى هذا ان لوسي كانت - خلال الصيف الفائت - النجمة المصرية الوحيدة التي دعيت لحضور مهرجان الفيلم العربي الذي اقيم في معهد العالم العربي في باريس، يمكننا ان ندرك حجم الغضب العاصف ضدها... تعيش الحياة على الشاشة كل هذا كان في ذهننا، من ناحية، كما كان في ذهننا من الناحية الثانية اداء لوسي الفني الدافق وتعبيرها العفوي، وجمالها الشعبي الأنيق، حين التقينا بها في القاهرة وكنا لتونا خرجنا من مشاهدة فيلم "ليه يا بنفسج" لرضوان الكاشف الذي تلعب فيه الدور النسائي الرئيسي، الى جانب فاروق الفيشاوي ونجاح الموجي. والحال ان اول ما يلفت النظر في لوسي عند الالتقاء بها، هو ذلك التماثل الغريب بين العفوية التي تبديها في ادائها الفني على الشاشة، وبين العفوية المنطلقة من عينيها الساحرتين في الحياة العادية. - "أنا ابنة الوسط الفني منذ نعومة اظفاري - تقول لوسي - وليس لدي فرق كبير بين دور اؤديه على الشاشة، وحياة اعيشها بشكل يومي. وليس هذا لأني اعيش حياتي تمثيلاً في تمثيل، بل لأنني اعيش الحياة نفسها على الشاشة...". * هل معنى هذا انك درست التمثيل وتطبقين على الشاشة اسلوباً ادائياً معيناً مستقى من ذلك التيار الذي يعتبر الاداء استمراراً للحياة...؟ - تضحك لوسي بطفولية وتقول بكل هدوء وبساطة: - "ومن أين لي، يا حسرة، ان ادرس الفن. انني ابنة بيئة شعبية حقيقية. صحيح انني حين كنت في العاشرة من عمري كنت احلم بأن اصبح راقصة باليه تحيطني الموسيقى والاضواء، لكن الحياة الحقيقية دفعتني كي أكون فنانة شعبية... كنا أخوة عديدين في بيت اقرب الى الفقر، وكن على احدنا كان يضحي بدراسته وطموحه ليعمل، وكنت انا البادئة بالتضحية". فرحة، خوف ودهشة والحال ان لوسي، قبل ان تكون ممثلة تتدرج بخطوات هادئة نحو الصف الاول، كانت فنانة منذ بدايتها يشهد على ذلك اداؤها في الافلام التي مثلتها حيث يصبح التعبير في الوجه وفي الجسم سواء بسواء، ولعل هذا العنصر هو الذي جذب بعض افضل المخرجين المصريين، وخاصة من الذين عرفوا بتطلبهم الكثير من ممثليهم، الى الاستعانة بها في ادوار يدخل الجسم جزءاً تعبيرياً فيها. وكان محمد خان، اول من اعطى لوسي دوراً كبيراً وهاماً في فيلمه المتميز "فارس المدينة" 1988. صحيح ان لوسي كانت في ذلك الفيلم واحدة من ثلاث نساء في حياة شخصية الفيلم الرئيسية محمود حميدة في دور فارس، وصحيح ان البطلتين الاخريين في الفيلم كانتا من ذوات التجربة السينمائية العريقة، ومع ذلك تمكنت لوسي من ان تثبت حضورها في دور الممرضة التي ينتهي الامر بفارس الى الارتباط بها. - "حين طلب مني محمد خان ان امثل في "فارس المدينة" فوجئت وفرحت وخفت في آن واحد... اذ قبل ذلك لم تكن لي سوى تجربة واحدة امام الكاميرا، يمكن احتسابها في خانة التجارب الحقيقية، وكان ذلك في المسلسل التلفزيوني "ليالي الحلمية"، وكنت اعرف ان محمد خان كثير التطلب من ممثليه، وان الادوار النسائية لديه قد تكون بسيطة، لكنها في الوقت نفسه تجابه ادوار رجالية شديدة التركيب والتعقيد... وهذا ما اخافني، اما ما أفرحني فهو انها كانت فرحتي الحقيقية للعمل في السينما تحت ادارة مخرج كبير، ومعلم حقيقي في الوقت نفسه. وأقول لكم بصراحة ان عملي مع محمد خان كان مدرسة حقيقية لي، فالرجل رغم صرامة العمل معه، ورغم قسوته، ورغم احساسه الدائم بأن اياً من الممثلين العاملين معه غير قادر على اعطائه كل ما يريد، كان يرغم الممثل في نهاية الامر على اعطاء افضل ما عنده... واليوم حين اشاهد "فارس المدينة" اتساءل بكل دهشة كيف تمكنت انا المتبدئة عند ذاك، في ارضاء محمد خان، بل وبعد ذلك من لفت نظر متفرجي فيلمه. محمد خان مدرسة حقيقية". حياتي وحياة صاحبة الدور بعد دورها الملفت في "فارس المدينة" مع محمد خان، اتيحت للوسي فرصة اخرى للعمل مع واحدة من أقطاب التيار السينمائي الجاد في مصر، وكان ذلك حين اختارها داود عبدالسيد لأداء دور المغنية الشعبية، رفيقة سيد مرزوق في رحلته الليلية في فيلمه اللافت "البحث عن سيد مرزوق". ولئن كان محمد خان جعل من لوسي ممرضة طيبة ذات اصول شعبية تطل من ملامحها وحديثها وتصرفاتها، فان داود عبدالسيد جعلها قضية من ذلك النمط الذي يكثر في النوادي الرخيصة، يختارها سيد مرزوق لمرافقته والغناء له ولبطانته خلال تنقله الليلي في سيارته او في المعدية او مشياً في الشارع، هنا، مرة اخرى، تمكنت لوسي من ان تعطي افضل ما عندها مضيفة اليه عنصر الغناء، وعن هذا تقول: - "ان صوتي الحقيقي هو الذي يغني في الفيلم، حتى ولو لم تكن "التيترات" تشير الى ذلك. والحقيقة انني وافقت داود عبدالسيد بسرعة حين عرض علي الدور، ووافقته على ان اغني بصوتي، وهو قال لي لا بأس في ذلك، حتى ولو كان الصوت غير خارق للعادة بالمقاييس الفنية الحقيقية، فانه على الاقل يحمل شحنة كبيرة من الصدق والألم. وكان هذا هو المطلوب. لأن المغنية في الفيلم ليست ام كلثوم ولا فايزة احمد، هي مجرد فنانة تعمل لتتمكن من العيش، وهذا بالضبط ما يدفعها الى مرافقة ذلك الثري الموشك على الافلاس، املاً في ان تطال بعض فتات ثروته المتدهورة". والحال ان لوسي تسيطر حقاً على الثلث الاخير من فيلم "البحث عن سيد مرزوق" ولا سيما حين تبدأ برواية حياتها ومعاناتها ليوسف نور الشريف قبل ان تبدأ مع اهل بيئتها في جمع القطع الاثرية وسرقتها من منزل الثري. نذكر هنا ان لوسي، رغم اعترافها لمحمد خان بالدور الذي لعبه في حياتها السينمائية الناشئة، تحس ان داود قد تمكن - بشكل افضل - من اعطائها دوراً يقترب اكثر من حياتها الحقيقية: - "الحقيقة انني اجد من ذاتي كثيراً في هذا الدور، بل وانني لأنطق فيه بعبارات واصف حالات من حياة المغنية تكاد تنطبق علي شخصياً، ولست ادري ما اذا كان لهذا العنصر دخل في اختيار داود عبدالسيد لي لأداء هذا الدور، أم ان الامر من قبيل المصادفة...". بالنسبة الى داود عبدالسيد لم يأت الأمر مصادفة اذ نراه يقول: - "الحقيقة انني منذ اللحظة التي رأيت فيها لوسي في فيلم محمد خان "فارس المدينة" شعرت ان وجهها الطفولي البريء، ونظراتها التي تختلط فيها المعاناة بالدهشة، هي خير ما يرشحها للقيام بذلك الدور". امرأة خلف القناع لعل اول ما يميز آراء لوسي في الفيلمين هو كمية الصدق والدهشة التي تطل من نظراتها، فهي تبدو دائماً وكأنها طفلة مندهشة امام ما يحدث لها، سواء أكان ذلك الحادث خيراً او شراً، ناهيك عن ان ملامحها الشعبية الاصيلة والألم المعتصر في عينين تبرقان على الدوام يجعلها تعبر خير تعبير عن انسحاق المرأة العربية بين تطلعاتها وأحلام طفولتها وبين ما هو من نصيبها في الواقع. ومن هنا ذلك الاحساس، امام الادوار التي تؤديها لوسي، اننا امام امرأتين في امرأة واحدة: امرأة القناع، فهناك امامنا الممرضة التي يتعين ان يتميز قناعها بالصرامة والجدية العلمية، والمغنية التي ستبدو لنا اول الامر متهتكة لا تتورع عن تلبية رغبات سيد مرزوق بطل الانفتاح العتيد، ثم لدينا في "ليه يا بنفسج" صديقة سارق الحمير المتهتكة مرة اخرى، وفي "الحب في الثلاجة" المتأنقة المتغطرسة صاحبة الكلب والثياب البراقة ومنظمة الحفلات. غير ان هذا كله ليس سوى القناع، اذ في كل واحد من هذه الافلام سرعان ما نكتشف خلف القناع امرأة اخرى، تتألم وتحلم وتحب وتطالب بحقها في الحياة... فالممرضة في "فارس المدينة" سوف تقع في حب فارس ليس لأنه ثري، بل بعد ان ينكشف سقوطه في فخ لعبة الانفتاح المالي، والمغنية الليلية في "البحث عن سيد مرزوق" سرعان ما تبدو وكأنها الاخت التوأم ليوسف الذي افاق بعد غيبة عشرين عاماً ليجد نفسه ضحية في مجتمع كان زعم انقاذه من بؤسه الدائم. وسارقة الحمير في "ليه يا بنفسج" سرعان ما تسفر عن امرأة تحب وبإخلاص، بل وترضى بالزواج من صديق حبيبها لكي تبقى قريبة منه! اما في "حب في الثلاجة" فإنها، بعد صورتها الاولى كامرأة لعوب، سرعان ما ستنكشف امرأة خلقت للحب والبساطة، لكنها - مرة اخرى - وقعت ضحية مجتمع يطالبها بارتداء القناع بل وبلصقه دائماً على وجهها... رمز المعاناة العامة * لوسي... ما هو في رأيك السبب الذي يجعل المخرجين الاكثر طليعية يقبلون على العمل معك بكل حماس؟ - "لست أدري... ربما كان ذلك لأنهم يرون انني واحدة من النساء اللواتي ترمز حياتهن ومعاناتهن الى حياة ومعاناة الوطن الذي نعيش فيه. لقد قال لي في مرة واحد من هؤلاء المخرجين انه يكاد يرى في وجهي ملامح اخت ضلت عن الطريق القويم لكي تقدم ريع ذلك الضلال تبرعاً لقضية انسانية. لست ادري ما اذا كان هذا التشخيص صحيحاً، لكنني اعلم ان ثمة شيئاً في وجهي هو الذي يجذبهم، او لربما كان ذلك ناتجاً عن عفويتي، عما يلوح في نظراتي من انني فتاة خام". وبعد ان تضحك لوسي مطولاً على هذه الفكرة تضيف: - "على أي حال، مهما كان السبب الذي يجذبهم الي، فإنني مرتاحة كل الارتياح الى ذلك... وأعتقد ان رصيدي من الافلام، على تواضعه من ناحية العدد، كاف لاقناعي شخصياً بأنني قد وجدت في السينما ما كنت ابحث عنه طوال حياتي...". * هل تعنين بهذا انك عثرت على نفسك في ادوارك السينمائية. أمام هذا السؤال تفكر لوسي طويلاً قبل ان تجيب: - "عثرت على جزء من نفسي... ربما. وربما عثرت على جواب عن ذلك السؤال الذي كان يقلقني دائماً، عن جدوى كل شيء حين يكون مطلوب منك ان تكرر نفسك على الدوام استجابة لصورة ترسم عنك. في السينما، وخاصة في الافلام التي مثلت فيها حتى الآن، كان التنوع هو سيد الموقف. تنوع بين دور ودور، وتنوع داخل الدور الواحد، وتنوع في العلاقة مع بقية الادوار. من هنا تراني اعتبر نفسي محظوظة لأنني عملت مع مخرجين يؤمنون بالتنوع وبالتحديد، فعرفوا كيف يأخذون مني افضل ما عندي". * فهل معنى هذا ان لوسي سوف تتفرغ للسينما وتترك بقية الفنون؟ - "ليس هكذا، مرة واحدة، ربما بشيء من التدريج. المهم انني عشقت السينما بشكل نهائي وشجعني على الامعان في عشقها ردود الفعل التي ابداها المتفرجون، والنقاد على السواء". في الوقت الحاضر تفضل لوسي الا تتحدث كثيراً عن مشاريعها المقبلة، لأن الوضع الراهن للانتاج في مصر يكاد يئد الكثير من المشاريع قبل رؤيتها النور. وكذلك تفضل لوسي ألا تعلق بشيء على الحملات الصحافية التي تشن ضدها بل تقول: - "ان حب الناس لي وتقديرهم للأدوار التي قمت بها حتى الآن، ووجودي في فيلمين مصريين جديدين وجريئين في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة، هو خير عزاء لي وسط مناخ يزداد ترديه، وتشتد المنافسة فيه الى درجة يجعل بعض الناس يتمسكون بما يتخيلون انه نقاط ضعف الآخرين لاستخدامه سلاحاً ضدهم...". * بقي ان نسألك لوسي، اخيراً، ما هو الدور الذي تحلمين بأدائه على الشاشة؟ - "ليس هناك دور واحد معين، لكني اذ اقلب ناظري في تاريخ السينما المصرية اتذكر نصيحة عاكف وأدوارها التي كان يختلط فيها الرقص بالغناء بالعنصر الدرامي وأتساءل اين صار هذا النوع من السينما... وربما كان في هذا التساؤل تعبيراً عن حلم سينمائي خفي يعمل في أعماقي".