في عدد من ليالي (ألف ليلة وليلة) ترد حكاية ملك بلاد خراسان محمد بن سبائك، الملك الذي لا يختلف عن ملوك آخرين في صفات مألوفة كالعدل والشجاعة والكرم، لكنه تميّز بسمة فريدة هي ولعه الشديد بالحكايات الغريبة والنادرة، وجاء في مُستهل الحكاية أن ابن سبائك: «كان كلُ من يحفظ حكاية غريبة ويحكيها له يُنعم عليه، وقيل إنه كان إذا أتاه رجل غريب بسَمَر غريب، وتكلّم بين يديه واستحسنه وأعجبه كلامه، يخلع عليه خلعه سنيه، ويعطيه ألف دينار، ويُركبه فرساً مسرجاً ملجماً ويكسوه من فوق إلى أسفل، ويعطيه عطايا عظيمة». وحين يتأمل الناظر الوعد الذي قطعه الملك على نفسه من أجل الحصول على حكاية جديدة نادرة يظنُ أنّه مصابٌ بحالة من حالات الإدمان الغريبة التي يعاني منها بعض أبطال حكايات ألف ليلة وليلة (كحالة إدمان المملوك كافور على الكذب على سبيل المثال). فقد استدعى ابن سبائك التاجر حسن وخاطبه: «أريد منك أن تحكي لي حكاية مليحة وحديثاً غريباً بحيث لم أكن سمعتُ مثله قطُّ، فإن أعجبني حديثك أعطيتك بلاداً كثيرة بقلاعها ... وأجعل مملكتي كلها بين يديك، وأجعلك كبير وزرائي تجلس على يميني، وتحكم في رعيتي، وإن لم تأتني بما قلت لك أخذتُ جميع ما في يدك وطردتك من بلادي». من مقايضة ابن سبائك مع التاجر حسن يبدو للقارئ أنّه رجل مجنون، أو مدمنٌ سمع كل حكايات الدنيا ولم تعد ثمة حكاية يعتقد أنها ستعجبه؛ لذلك فهو على استعداد تام للمغامرة بإشراك الرجل في مُلكه مقابل الحصول على صنف حكائي فاخر وقادر إعادة شعور النشوة المفقود إليه. وتذكر الحكاية أنّ التاجر لم يفوّت هذه الفرصة المغرية، فوافق على الصفقة بشرط منحه مهلة سنة كاملة للبحث، ثم سارع باختيار خمسة من أفضل مماليكه وأوصاهم بالسفر طلباً لحكايةٍ حدّدها بالاسم لعلهم يجدونها عند «أصحاب الحكايات الغريبة والأخبار العجيبة». فأرسلهم إلى أنحاء متفرّقة من العالم: الأول إلى بلاد الهند والسند، والثاني إلى بلاد العجم والصين، والثالث إلى بلاد خراسان، والرابع إلى بلاد المغرب، والخامس إلى بلاد الشام ومصر وما جاورهما. في حكاياتنا الشعبية تقابلنا حكاية تضمّنت شخصية تُشابه شخصية ابن سبائك في عشقها للحكايات الغريبة، وهي شخصية قوت القلوب بطلة حكاية (خائنة العهد) التي أوردها الأستاذ عبده خال في كتاب (قالت حامدة: أساطير حجازية)، فبعد إفشائها لسر حبيبها وزوجها الجني رأس الخروف يختفي ولا تعرف له مكاناً، فتطلب من والدها الإذن بالرحيل بحثاً عنه، وحين تصل إلى وسط الصحراء تنصب خيامها ثم ترسل المائة مملوك الذين يخدمونها لإغاثة الملهوفين، ولكنها تضع شرطاً غريباً لإنقاذ أي ملهوف، وهو «أن يقص عليها أغرب حكاية مرّت به»، فكانت تستمع إلى الحكايات كل يوم وتسجلها في لوح كبير إلى أن سجلت ألف حكاية، وبعد ذلك تُصاب بحالة من الحزن واليأس من الوصول إلى خبر يدلها على حبيبها، فتمرّ بالصدفة صبيتان تطلبان الماء، فتقول لهما: «لا نقدّم شيئاً هنا إلا بعد سماع حكاية غريبة»، فتحكيان لها الحكاية الواحدة بعد الألف التي تمكّنها من الاستدلال على ضالتها. ومن عدد الحكايات التي دوّنتها قوت القلوب (ألف حكاية وحكاية) تتجلّى لنا إشارة أولى لاستلهام الراوي الشعبي لحكايته (خائنة العهد) من حكايات (ألف ليلة وليلة)، رغم الاختلافات الكبيرة إلا أنني لا أستبعد أنّه نسج أحداثها بوحي من حكاية محمد بن سبائك تحديداً، ومن الحكاية الأخرى التي جلبها له التاجر حسن: حكاية (سيف الملوك وبديعة الجمال). ومن نقاط الالتقاء والتشابه الواضحة في قصة العشق العجيبة لأبطال الحكايتين أن رأس الخروف، وهو ابن أحد ملوك الجن، عشق قوت القلوب الإنسية لمجرد سماعه باسمها، وفي المقابل فإن سيف الملوك بطل حكاية (ألف ليلة وليلة) عشق بديعة الجمال، بنت ملك الجان، بعد رؤيته لصورتها منقوشةً على قباء (نوع من اللباس) أهداه النبي سليمان بن داود -عليه السلام- لوالده. كما يلتقي ملك الجن (والد رأس الخروف) مع الملك عاصم بن صفوان (والد سيف الملوك) في أنّهما مكثا مدّة طويلة ولم يرزقا بأبناء، فالأول لم يرزق بولده إلا بعد ألف سنة، والثاني لم يرزق بسيف الملوك إلا بعد مائة وثمانين سنة وبعد طلب المساعدة من النبي سليمان. وترشدنا العبارات الأخيرة من حكاية الملك ابن سبائك إلى السر وراء شغفه بالحكايات الغريبة، فبعد إياب التاجر حسن حاملاً الحكاية المطلوبة يفي الملك بوعده، ثم يأمر «الكتّاب أن يكتبوا هذه القصة بالذهب ويجعلوها في خزائنه الخاصة ... كلما ضاق صدره يُحضر التاجر حسن فيقرؤها». فابن سبائك ليس مجنوناً ولا مدمناً على الحكايات كما قد نتوهم، لكنه ككثير من البشر يخفي معاناةً خاصة، يضيق منها صدره، لا تفصح عنها حكايته؛ لذلك يبحث عن العزاء والسلوان في حكاية عجيبة تخفّف تلك المعاناة، وقد وجد ما يبحث عنه في حكاية (سيف الملوك وبديعة الجمال) مثلما وجدت قوت القلوب السعادة في الحكاية الواحدة بعد الألف من بين الحكايات التي دوّنتها من الملهوفين.