بعد هذه الجولة السريعة التي قمنا بها في الحلقات السابقة حول شكل الكتاب ومضامينه، وصلنا الى تحديد ان الكتاب لا يصح عزوه لأكثر من مؤلف واحد، وأن ذلك المؤلف عاش في بغداد وانه من أهل القرن الرابع للهجرة. وبقي علينا الوصول الى تحديد اكثر دقة، فربما امكنتنا الشواهد من تحديد اسم الكتاب بشكل يمكن الركون اليه. القرن الرابع هو عمر الحضارة الاسلامية الأكثر ازدهاراً. ففيه ظهرت مجموعة كبيرة جداً من العلماء في مختلف العلوم والفنون والاداب. وكثرت فيه مراكز العلم والثقافة وامتدت امتداد المدن المعمورة يومذاك في شتى أرجاء البلاد شرقاً وغرباً، بفعل بروز دور مدن عدة الى جانب دور العاصمة بغداد في رفد الحضارة بالطلاب والعلماء. وعلى رغم الاضطراب السياسي الذي شهده ذلك القرن بسبب تنافس الطامعين في الحكم والمغامرين، ووقوع الخلافة تحت سلطة البويهيين في بغداد، ونشوء ما يشبه اللامركزية في ادارة شؤون الولايات، فإن ذلك القرن ورث ثلاثة قرون من الفكر الاسلامي المؤثر في حياة الأمة على مختلف الاصعدة، وقروناً من الفكر الانساني، عربية ويونانية وهندية وفارسية، بل ان هذا الاضطراب السياسي ساعد كثيراً في تطوير الثقافة لأسباب عدة، منها: ان الامراء الذين حكموا في المدن المختلفة تنافسوا في ما بينهم في اسقطاب أهل العلم والأدب والفن، وأغدقوا عليهم العطايا ما دفعهم الى التفرغ للعلم والابداع فيه. ان المفكرين والأدباء والعلماء لم يكنوا راغبين في خوض غمار الصراع السياسي فأتاحوا لأنفسهم فرصة التفكير والابداع. ظهور تيارات فكرية عدة تتنافس فيما بينها، ما بين تراثية عربية وفارسية ويونانية، تريد تثبيت منزلتها أو استعادتها، ما أبرز مجموعة من علماء كل تيار من التيارات انصرفوا الى الكشف عما لديهم من علوم وفنون تدعو لفخرهم واعتزازهم وتميزهم من غيرهم. إضافة الى عوامل اخرى كثيرة جسدت حالة حضارية مرتكزة على الحوار والرغبة في مزيد من التطور. في هذا القرن الرابع ظهر العلماء الكبار الذين تعنى المؤلفات بهم عادة. ولكن القرن كان أوسع من ان يكتفي بأولئك العلماء، فإلى جانبهم ظهر جمهور من القصاصين والرواة و"الحكواتية" على ما يطلق عليهم هذه الايام، بل ان بعض العلماء كانوا يمارسون ذلك النوع من الانتاج الفكري والثقافي، ونعني به كتابة القصص والحكايات. يروي المؤرخون ان العالم الجليل احمد بن فارس ت 395 ه طرد من حضرة الصاحب بن عباد لأنه كان من أهل الحكايات والقصص. حتى ان ابن فارس حين كتب كتابه "الحجر" وأرسله الى الصاحب بن عباد أعاده اليه، وقال: "ردوا الحجر من حيث جاء". ولكن نفسه لم تطب إلا بالنظر فيه، فاستعاده وأثاب مؤله بجائزة ليست سنية. أحمد بن فارس هذا سبق ان رأينا اشعاره تتردد في كتاب "ألف ليلة وليلة" أكثر من غيرها من الأشعار والشواهد الحلقة الثالثة من هذه الحلقات. وهو نفسه واضع "فن المقامات" في الأدب العربي، ذلك الفن الذي أخذه منه تلميذه بديع الزمان الهمذاني ت 398 ه وطوره وأبدع فيه مقاماته المعروفة اليوم. والمقامات صورة من صور القصص والحكايات، ولكنها تمتاز بأسلوبها الواقعي الذي لا يجنح الى الخيال كثيراً، أو بالاحرى لا يجنح الى الأساطير والخرافات، بل يتخذ من حياة الناس اليومية مادة له. احمد بن فارس الذي تمثل اشعاره، من ناحية تاريخية، أواخر الاشعار الواردة في "ألف ليلة وليلة"، شيخ جليل كان التلاميذ يسارعون اليه في أية مدينة حل والى أية مدينة ارتحل، حتى تجاوز تلامذته المئات من مختلف البلدان. وقد دخل بغداد قادماً من بلاد فارس، وأخذ فيها العلم، وجلس لرواية القصص والحكايات، ولكننا لا نستطيع الزعم ان تلك الحكايات هي ذاتها حكايات "ألف ليلة وليلة". كلا... فالشوط طويل، والفرق واضح تماماً بين اسلوب ابن فارس في كتبه، مثل "مجمل اللغة" و"مقاييس اللغة" و"الصاحبي" وبين "الليالي". ولكن له كتاباً بعنوان "قصص النهار وسمر الليل" بحيث نفهم منه التفات هذا العالم الكبير الى أهمية الحكايات والقصص في تلك الايام. ثم يأخذ بديع الزمان الهمذاني تلك الروح القصصية فيصوغها في اسلوب حكائي جديد هو اسلوب المقامات. والمقامات لا يصح ان نتخذها ميزاناً لحكايات شهرزاد، ولا ان نعدها أصلاً من أصولها، اللهم الا اذا اعتبرنا تلك الحكايات القصيرة عن الزهاد الواردة في "ألف ليلة وليلة" امتداداً لما عرفه الأدب العربي عنهم منذ العصر الأموي، والذي حفلت المقامات به، اصلاً من تلك الأصول، كما لو ان قصص الحيوانات في "الليالي" مرتكنة على حكايات "كليلة ودمنة" التي وضعها ابن المقفع وزعم انه ترجمها عن الهنود والفرس. غير ان الصلة بين "الليالي" من جهة و"المقامات" و"كليلة ودمنة" من جهة اخرى، صلة ضعيفة لا يمكن الركون اليها. وبخاصة في حالتي ابن فارس وبديع الزمان الهمذاني، فإن معرفة كل منهما ببغداد وحاراتها وأزقتها وتياراتها التي تمور في داخلها، ليست معرفة كافية كالتي تظهر في "ألف ليلة وليلة". فلا بد إذن من وجود شخص آخر من أهل بغداد أنفسهم، يعرف جيداً كل شيء عنها وعن بيئتها وحاراتها وأسرارها، وان هذا الشخص التقى بابن فارس، وأعجبه النهج القصصي والحكائي الذي كان يقدمه للناس في المساجد والأماكن العامة، كما أعجبته حكايات الرواة الآخرين الذين كانوا يحدثون الناس بسير الأولين والآخرين. هذا الشخص الآخر هو ابن سكرة الهاشمي البغدادي الذي تلمذ لابن فارس، وأفاد منه سلاسة الأسلوب وجمال العبارة، وتأثر بنهجه القصصي والحكائي، وسار بذلك النهج شوطاً جديداً فكتب "ألف ليلة وليلة" كما سار بديع الزمان بجانب آخر من جوانب ابن فارس فأنتج المقامات التي هي أيضاً نوع من أنواع القصص والحكايات. ابن سكرة الهاشمي شاعر وصفه الثعالبي في "يتيمة الدهر" فقال: "هو شاعر متسع الباع في أنواع الابداع، فائق في قول الطرف والملح على الفحول والافراد، جار في ميدان المجون والحكايات الدالة عليه ما أراد. وكان يقال ببغداد: ان زماناً جاد بمثل ابن سكرة وابن حجاج شاعر وأديب عاصر ابن سكرة لعصر سخي جداً". ويقول عنه شيخه ابن فارس: "لم أجد مولعاً بالجن والعفاريت وحكاياتهم أكثر من ابن الحسن محمد بن سكرة الهاشمي". ويصفه الذهبي في "العبر" بأنه من المعروفين بالخرافات وحكايات الجان مع شعر رائق يعجب الخاص والعام. وفي "الشذرات" نقرأ قريباً من ذلك. ومن هنا فقد تجمع لابن سكرة الهاشمي ما لم يتجمع لغيره من صفات تؤهله لأن يكون هو المؤلف الحقيقي لپ"ألف ليلة وليلة". فهو: 1- التقى بابن فارس وأخذ عنه الولع بالقصص والحكايات، فلا غرو ان يكون شعر ابن فارس أكثر الشعر تكراراً في مواضع الكتاب على ما سبق ان ذكرناه في الحلقة الثالثة من هذه الحلقات. 2- كان هو نفسه معروفاً بالقصص والحكايات. 3- حكاياته تدخل في باب الخرافات والأساطير. 4- بعض حكاياته ينطوي على شيء من روح "المقامات" التي عرف بها شيخه ابن فارس، وبديع الزمان الهمذاني. 5- كان كثير الذكر للجن والعفاريت في حكاياته، حتى ان ابن فارس لم يجد أكثر منه ولعاً بها. 6- وصف العلماء شعره بأنه شعر رائق راق، وان اسلوبه جميل يمتاز بالليونة والسهولة وسلاسة المبنى، شعراً ونثرا. 7- كان لا يتحرج من ان يوصف بالمجون ولا بالسخف، وهذه صفة مهمة لمن أراد ان يكون واضحاً وصريحاً فيما يعبر عنه من مشاعر ابطال حكاياته وأوضاعهم في مختلف أحوالهم. 8- انه ابن بغداد مولداً ونشأة، فهو أعرف من غيره بشعابها وأسرارها وأخبارها وما تضمه بين جوانحها من إرث عريق من الأخبار والأمثال والأشعار وغيرها. 9- ونظراً الى كون نسبه يعود الى أبي جعفر المنصور عن طريق علي بن المهدي بن أبي جعفر المنصور، فلا عجب أن نرى في الكتاب تلك العناية الفائقة بأخبار خلفاء بني العباس، وعلى الأخص هارون الرشيد، كما سبق أن أثبتنا في الحلقة الرابعة. كما لن نتعجب من اهتمامه بأخبار ابراهيم بن المهدي بن أبي جعفر المنصور وهو أحد كبار فناني زمانه بعد أن أبعد نفسه عن التنافس مع الآخرين على الحكم والخلافة. 10- انه صاحب الحكايات الرائقة والاسمار الفائقة والخرافات التي تحبس الأنفاس. ولا نعرف في تراثنا كتاباً تنطبق عليه هذه الأوصاف أكثر من كتاب "ألف ليلة وليلة". 11- ولا نعرف كاتباً آخر ينطبق عليه قول الذهبي انه من المعروفين بالخرافات وحكايات الجان مع شعر رائق ىعجب الخاص والعام. 12- كان ابن سكرة كثيرة الأسفار محباً للحياة، ولا شك في أنه سافر الى مصر والى الشام والى الأماكن التي ذكرها في كتابه وفي شعره. 13- كان له مجالس أنس وسمر في بغداد، يلتقي فيها بالتجار والسواح والزائرين، فلا غرابة أن يكون على معرفة بطرق التجارة والمواثيق التي تعقد بين التجار في المساومة والبيع والشراء، على ما أشرنا اليه في الحلقة الثانية. 14- استخدم في شعره أمثالاً وحكماً نجدها مستعملة أيضاً في "ألف ليلة وليلة" وفي المواضيع ذاتها تقريباً. 15- ذكر في شعره اسماء لا نجدها الا في "ألف ليلة وليلة"، مثل دهنش وهو اسم اطلقه على أحد عفاريت "ألف ليلة وليلة"، وشواهي وهو اسم أطلقه على عجوز رومية تآمرت لقتل شركان وأبيه في "ألف ليلة وليلة"، وتركاش وهو أحد قواد الترك في جيش عمر النعمان في الليالي. ولو كانت هذه الأسماء وغيرها من الاسماء شائعة لأمكن أن يقال انه استعملها كما يستعملها غيره، إلا أنها اسماء نادرة الوجود والاستعمال، بل لا نجدها إلا في "ألف ليلة وليلة" ما يجعلنا نعتقد بأن ابن سكرة هو الذي اختلقها خلقاً واستعملها في شعره ونثره، أي في ديوانه وفي حكايات ليالي شهرزاد. 16- المعروف عن ابن سكرة انه غزير الانتاج طويل النفس في الكتابة، فلا نعجب ان يحدثنا ابن خلكان في "وفيات الأعيان" بأن ديوانه يضم خمسين ألف بيت، مما يساعدنا في أن نفهم طول نفسه في كتابة "ألف ليلة وليلة" نثراً، ما دام قد كتب خمسين ألف بيت شعراً. 17- وأخيراً فإنه ابن القرن الرابع الذي عنه صدرت ليالي شهرزاد، بكل تأكيد. وهناك ملاحظة مهمة قد تعدل جميع النقاط السابق ذكرها، وهي أن حكايات الليالي جاءت بصيغة الشخص الثالث أي ان هناك راوية يرويها، استثناء بعض الحكايات التي يرويها أحد أبطال الحكاية عن نفسه. وتبرز من بين هذا الصنف الثاني من الحكايات، حكايات يتحدث فيها المؤلف بضمير المتكلم، ويستشهد بأشعار هي أشعار ابن سكرة البغدادي نفسه، كهذه الأمثلة: * فلما خرجت من الحمام قمت فتفقدت مداسي فوجدته قد ضاع، فقلت في نفسي وأنا ممتلئ غيظاً: إليك أذم حمام ابن موسى وإن فاق المنى طيباً وحرا تكاثرت اللصوص عليه حتى ليحفى من يطوف به ويعرى ولم أفقد به ثوباً ولكن دخلت محمداً وخرجت بشرا يريد أنه خرج حافياً مثل بشر الحافي المذكورة بعض أخباره في الليالي. ونجد الأبيات نفسها في ديوان ابن سكرة قالها بعد أن سرق نعاله في حمام ابن موسى. * فنهضت من ذهولي، وبكيت على حالي، وما صار اليه مآلي، ورفعت الصوت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات: بليت ولا أقول بمن لأني متى ما قلت من هو يعشقوه حبيب قد نفى عني رقادي فإن غمّضت أيقظني أبوه وهي حادثة حقيقية مرت في حياة ابن سكرة أيضاً. * فلما لامني فيه العاذلون وألزموني مفارقته كتبت إليه بدمع مقلتي بيتين أقول فيهما: قالوا التحى وستسلو عنه قلت لهم هل يحسن الروض ما لم يطلع الزهر هل التحى طرفه الساجي فأهجره أم هل تزحزح عن أجفانه الحور وهناك مواضع أخرى غير هذه نرى فيها شخصية ابن سكرة البغدادي الهاشمي واضحة تماماً في "ألف ليلة وليلة"، وبخاصة في حديثه عن نفسه واستشهاده بشعره في حوادث وقعت له فعلاً، كما يقول المؤرخون. ونعتقد بأن كل هذا يثبت الرأي الذي نراه من ضرورة تصحيح نسبة الكتاب الى مؤلفه أبي الحسن محمد بن عبدالله بن محمد المعروف بابن سكرة الهاشمي البغدادي، الشاعر المشهور الذي توفي في بغداد يوم الأربعاء حادي عشر من شهر ربيع الآخر من سنة خمس وثمانين وثلثمئة، وخلد الشرق وسحره في ليالي شهرزاد العريقة.