عقود أشرقت في رحاب الثقافة والأدب وعلوم الشريعة، ومع تراكم السنين وتقادم العهد، يرجَح العقل ويزدان الفعل، وقد لمعت هذه التجربة الفكرية بمنعطفاتها وأطوارها بالإنتاجية الرصينة والجودة الثقافية والنفائس التي تربو على 200 مؤلف، أخذت حظوتها بجوار تجارب الأعلام والنخب. ها هو أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري، الذي لم يفتأ ينثر الثقافة طوال عقود، ومؤخراً صعد باسمه الحافل على منصة «الجوائز الثقافية الوطنية» التي نظمتها وزارة الثقافة في حين غيّبته وعكات الزمن، ونالت أغصانُ سيرته المورقة وجذورُها الراسخة الاستحقاقَ بعد حصوله على جائزة «شخصية العام الثقافية». ولَئِن كان التقدير يضفي البهجة، فذلك ما أظهره محيا الظاهري من علائم الفرح، حيث وثقت الصور بريق أسارير وجهه والجائزة بين يديه، ليضرب مثلاً سامياً في علو الهمة والصبر والإقبال على الحياة والعمل لها وكأنه في بواكير الصبا وهذا ديدن النخب والرموز، الذين يسْمُون بغاياتهم لبلوغ الأهداف النبيلة. وتميز الشيخ الأديب عن غيره بالعطاء الثقافي وموهبته الفذة وأفكاره النيّرة، حتى بات موسوعة علمية، فكتب في علم الحديث ودوّن سيرته، وألّف في الأدب والفلسفة، ومن مؤلفاته: «شيء من التباريح»، و»الشعر في البلاد السعودية في الغابر والحاضر»، و»ديكارت بين الشك واليقين» و»شيء من فلسفة ياسبرز». وقد اتصل الظاهري بالعلوم والثقافة منذ صغره، ففي محافظة شقراء حيث ترعرع، لم ينفك عن تعقب مكتباتها ومصادر بيع الكتب، وفي آخر دراسته بالمرحلة الابتدائية، التقى مع شيخه ابن حزم الظاهري في كتاب «طوق الحمامة»، وكان له أثر بليغ في تكوينه الثقافي، وتربية عقله على الحرية المنضبطة كما قال ذلك في إحدى مقالاته. وكان للظاهري إسهامات ثقافية مرموقة من أهمها تأسيس «مجلة الدرعية»، وإطلاق صالون أدبي عام 1398ه، وفي عام 1419ه حوّله إلى «أحدية ابن عقيل»، غير أنه مستمر في الكتابة بالصحف منذ 66 عاماً، وله مشاركات في مؤتمرات وندوات ثقافية، وبرامج تلفزيونية وإذاعية. قال عنه الأديب غازي القصيبي نقلاً عن مقالة حمد القاضي في إحدى الندوات التي جمعت الظاهري والقصيبي في لندن: هذا ابن عقيل ولم تسمعوا منه إلا القليل فهو متبحر في كل فن يطرقه وعلم يتحدث عنه، وأضفتُ أنا في الجلسة والكلام هنا للقاضي في ذات المقالة: «أن الشيخ ابن عقيل فسّر سورة الفاتحة بأكثر من (مئتي) حلقة في برنامجه الإذاعي (تفسير التفاسير)، وإن البسملة لوحدها استغرقت زهاء (عشرين) حلقة».