قبل انطلاق الإنترنت وتطور أدوات البحث الإلكترونية، كانت البشرية تزحف بخطى حثيثة لكن بطيئة نحو التطور العلمي، كان العَالِم أو الباحث يسافر، حسب توفر الدعم المادي، لزيارة مكتبات ومراكز أبحاث، والجلوس مع نظرائه حول العالم من أجل الحصول على معلومات إضافية تدعم بحثه العلمي. ولذلك كانت الأبحاث والاختراقات العلمية تستغرق سنوات طويلة. بعد ثورة الاتصال والإنترنت انطوت المراحل وتسارعت وتيرة الكشوف العلمية بشكل مذهل. المعلومة التي كان يسافر لأجلها العالم ويبحث عنها في أطنان الكتب على مدى سنوات أصبحت متاحة في لمح البصر، ونظراؤه الذين يسكنون في قارة أخرى ويلتقي بهم وجهاً لوجه في المؤتمرات العلمية أصبحوا على مسافة اتصال سريع أو بريد إلكتروني، المعلومات تهطل في لحظات، والتواصل والنقاشات العلمية تتم في اليوم نفسه. كانت هذه الثورة لحظة مفصلية في مسيرة البشر نحو المزيد من الحضارة والتطور العلمي، وتاريخ البشرية حافل باللحظات التي غيرت قوانين اللعبة مثل اختراع التليسكوب الذي فتح لنا أسرار الفضاء، واختراع المايكروسكوب الذي أدخلنا عالم الكائنات المجهرية بكل جراثيمها وفيروساتها، واكتشاف الكهرباء، وخريطة الجينيوم البشري وغيرها من المحطات المهمة في طريقنا نحو الحضارة، لكن الإنترنت وثورة الاتصال فتحت آفاقاً جديدة تكاد لا تصدق ولا يمكن حصرها في هذا المقال. اليوم نحن على مشارف مرحلة مفصلية ستعيد تشكيل الكثير من ملامح العالم الذي نعرفه اليوم، ثورة الذكاء الاصطناعي ستغير مرة أخرى قواعد اللعبة وتختصر المسافات الزمانية والمكانية إلى أبعد حد ممكن. عقل الإنسان بحد ذاته أعجوبة، وله الفضل في كل التطور الذي تنعم به البشرية، لكن هذا العقل البشري الخلاق إذا ما استخدم سلاح الذكاء الاصطناعي وإمكاناته الكبيرة في أتمتة المهام والتعرف على الأنماط وقدرته الهائلة على التنبؤ والتحليل فإن النتائج التي تنتظر مستقبل البشرية في مجال الاختراقات العلمية والاختراعات لا يمكن تخيلها. الكثير من الجدل ثار حول دخول الذكاء الاصطناعي في حياتنا خلال الأشهر الماضية، هناك مخاوف أخلاقية وقيمية ومجتمعية ووظيفية بل وحتى أمنية ووجودية، وهي مخاوف مبررة ومنطقية، لكن للأسف لا يوجد نقطة تحول كبيرة دون الكثير من الآثار السلبية وليس الوقت الآن مناسباً للحديث عن إيقاف طوفان الذكاء الاصطناعي خصوصاً أنه أصبح واقعاً حتمياً لا يمكن نزعه من حياتنا بل سيتغلغل أكثر حتى يتلبسنا تماماً، الأمر يشبه دخول الإنترنت وثورة وسائل التواصل الاجتماعي التي صاحبتها تغيرات جذرية في كل ملامح حياتنا بعضها إيجابي والآخر سلبي، وكذلك سيفعل الذكاء الاصطناعي، سيدخل حياتنا بكل ما فيه من مخاطر ومحاذير وإيجابيات وفوائد وسنتأقلم مع ذلك كما فعلنا من قبل، لكن الأكيد هو أن شكل الحياة التي نعرفها الآن سيتغير تماماً مثلما حياتنا الآن لا تشبه حياتنا في نهاية العقد الماضي.