غيّب الموت فجر الجمعة الماضية منتصف شهر ذي الحجة من هذا العام 1444ه شخصية فذه علما وعملا وخلقاً، فقدنا مخطط ومهندس شبكة الطرق الحديثة التي تنعم بها المملكة حالياً. إنه رجل المهمات الصعبة، رجل التحديات، رجل الطموحات، ومن يكون غير معالي الدكتور ناصر بن محمد السلوم وزير المواصلات الأسبق. كتبت عن الراحل مقالاً في صحيفة الرياض قبل أكثر من سنتين، وجاء عنوانه (الدكتور ناصر السلوم قيادي سبق زمانه وحان تكريمه) وقد أوضحت في ذلك المقال كيف سبق هذا القيادي زمانه من خلال المبادرات التي تبناها ودافع عنها وحققها على أرض الواقع، وكانت جديدة تماماً على بلادنا ومجتمعنا واحتياجاتنا المنظورة في ذلك الوقت، وكل ذلك لأنه كان له رؤية مستقبلية مختلفة وطموح يتجاوز كل الحدود في مجال تخصصه ومسؤوليته عن الطرق. كافح كثيراً حتى يقنع مسؤولي الحكومة آنذاك بفكرة الطرق السريعة بين المناطق رغم تكاليفها العالية، واليوم نرى جميعا أثر ذلك اقتصاديا واجتماعيا من خلال ربط شمال المملكة بجنوبها وغربها بشمالها، تعامل مع أصعب المناطق جغرافية في المملكة ونفذ العشرات من مشاريع العقبات في المناطق الجنوبية والتي كانت تعتبر مستحيلة في ذلك الوقت، كما أنه شعر منذ التسعينات بالمشكلة التي ستواجه المدن الكبرى مثل مدينة الرياض فتبنى فكرة الطرق الدائرية التي كان كثير من مسؤولي وسكان مدينة الرياض يرون أنها مشاريع مبالغ فيها وقت تنفيذها، ولك أن تتصور أن تنفيذها تأخر عن تلك السنوات وكيف سيكون تأثير ذلك على الحركة المرورية في الرياض وبعدها انطلقت فكرة الطرق الدائرية في كافة مناطق المملكة، تبنى فكرة النقل الترددي في المشاعر وتنفيذها رغم غرابتها في بداية طرحها كفكرة، واليوم هي أحد الحلول المميزة التي سهلت حركة الحجاج بين منى وعرفات ومزدلفة، كما يعود لمعاليه - رحمه الله - الفضل في توطين صناعة الطرق في المملكة حيث كانت الطرق الرئيسية في المملكة تنفذ قبل التسعينات بشركات أجنبية، ومنذ تعيينه وكيلا لوزارة النقل جعل أحد أهم أولوياته تطوير المقاولين السعوديين في مجال الطرق ودعمهم وتمكينهم حتى تحقق الحلم وأصبح معظم مشاريع الطرق تنفذ من خلال شركات سعودية ملكت الإمكانيات والخبرة والمعرفة، بل تمكنت بعض هذه الشركات من المنافسة وتنفيذ مشاريع خارج المملكة ولله الحمد، وأجزم أنك لا تجد اليوم مالكا لشركة مقاولات في مجال الطرق لا يدين بفضل كبير بعد الله للراحل الكتور ناصر السلوم، بل إن الكثير منهم قد يروي لك قصصا من وقفات الدكتور ناصر معه أثناء رحلة تطور شركته، قد يطول الحديث عن طموحات وإنجازات ونجاحات هذا القيادي العظيم، لكني أود أن أعرج على زاوية أخرى في حياته بحكم عملي لسنوات طويلة بالقرب منه، وهو الجانب الإنساني في شخصية الدكتور ناصر، كان يبهر الناس بتواضعه الجم سواء على مستوى العمل المؤسسي أو في علاقاته الخاصة، والأجمل من ذلك كان حبه وإقباله على مساعدة الآخرين وتمسكه بالجميع واستعداده للمساعدة في كل وقت وفي أي ظرف ولكل شخص، لم يكن يفرق بين من يطلب منه المساعدة، العامل البسيط عنده مثل الشخص كبير المقام، كان خلال سنواته الطويلة في وزارة المواصلات يتعامل مع منسوبي الوزارة كإخوان أو أبناء، وقد التحقت شخصيا بالوزارة عام 1403 تقريبا مع مجموعة كبيرة من المهندسين في تلك السنة وكنا جميعا نستغرب كيف يتعامل مسؤول كبير في الوزارة معنا كأب ومربّ لنا رغم عدم وجود أي معرفة بنا من السابق، وكان يصل حرصه أنه يغضب كثيرا عندما تصله أخبار عن تقصير من أحد المهندسين ويتدخل بشكل مباشر لمعالجة هذا الأمر وليس البحث عن معاقبته، بل إنه كان يرفض استقالة أو خروج أي من المهندسين من الوزارة ويحاول ثنيه عن الخروج ومعالجة أي مشاكل يصادفها، انطلاقاً من حرصه على بناء فريق هندسي حكومي متمكن من إدارة مشاريع الطرق في المملكة، يوازي بناءه للمقاولين السعوديين في هذا المجال. المواقف الإنسانية لمعالي الدكتور ناصر كثيرة جداً ولا يسع المقام لسردها، لكني أتمنى أن نوفق كمحبين لذلك الرجل أن نجمع تلك السيرة العطرة والمواقف النبيلة والقصص الملهمة في كتاب يبقى للتاريخ وليكون قدوة تقتدي بها الأجيال القادمة. كما أكرر أمنيتي بأن يكرم الدكتور ناصر السلوم بإطلاق اسمه على أحد الطرق الرئيسية في المملكة، وكذلك أحد التقاطعات الرئيسية في شبكة الطريق الدائري بالرياض، وأزف بشرى بقرب اكتمال المسجد الذي بني من تبرعات محبية بنية أجره لمعالي الدكتور ناصر السلوم، تحت إشراف ومتابعة من جمعية العناية بمساجد الطرق، داعيا الله أن يبني له ولمن ساهم في بنائه قصراً في الفردوس الأعلى من الجنة وأخيرا.. رحمك الله والدي ومعلمي وقدوتي الدكتور ناصر السلوم، غبت عنا جسدا وروحا ولا زلنا نستحضر ما تعلمناه واستفدنا منه في مدرستك. * مهندس سابق في وزارة المواصلات