لا يمكن تجاوز الواقع دون استيعابه، ولا يمكن استيعاب الواقع بالمشاهدة وجمع الشواهد والأدلة السطحية، على هذا الأساس يجب أن ننظر لعمليتي الاستيعاب والتجاوز على أنهما آليتان يشكلان منهجاً واحداً لتفكيك الظواهر التي تحيط بنا.. الظاهرة التي يصعب تفسيرها هي الاستسلام المريب للواقع، وهذه الظاهرة لها علاقة عميقة بحركة أو سكون آليات التفكير، ففي حوار مع بعض المهتمين بدراسات الاستشراف تم طرح إشكالية «الاستيعاب والتجاوز»، وهي إشكالية تحاول أن تتحدى الواقع غير المرضي عنه، فإذا لم يكن هناك استيعاب لهذا الواقع فلا يمكن تجاوزه. يبدأ الاستيعاب بالإحساس بأن الواقع يحتاج إلى إصلاح، فمثلا كل بيئة مهنية أو ثقافية تعاني من إشكالية لا يمكن تجاوز هذه الإشكالية إلا من خلال استيعابها ومن ثم العمل على تجاوزها، وحتى تكون الفكرة أكثر وضوحا يمكن أن نتحدث عن بيئة البحث العلمي وبيئة التصنع في العالم العربي وواقعها الذي يعاني من تعثر يمنعهما من أن التطور والارتباط بالمكون الثقافي المحلي ويحد من امتزاجهما مع الظروف المحلية من أجل توليد تقاليد بحثية وتصنيعية من رحم هذه البيئة، الواقع ينم عن وجود إشكالات متراكمة على أن الملفت أنه لم يتم استيعاب هذه الإشكالات لذلك يصعب تجاوزها. يبدو أن دراسة الواقع نابعة في الأساس بما يمكن أن نسميه «قوة اللحظة» وهي قوة نابعة من فهم الحاضر دون النظر للماضي أو المستقبل، لكنها في نفس الوقت هي المحرك الأساس لصناعة المستقبل، تمثل هذه الفكرة محور تنقية تفسيرات النواة الإبداعية من الشوائب، والتي يفترض أنها تمثل منابع الإبداع في أي بيئة محلية وتكييف التفسيرات الجديدة لهذه النواة وفقا لمعطيات الحاضر المتغير باستمرار. قوة «اللحظة المتحركة» نحو المستقبل تعمل على بناء الأفكار الجديدة ذات الثبات النسبي فكل فكرة تتغير حسب المعطيات التي أوجدتها، وبالتالي لا بد أن يحدث تهذيب وتطوير للفكرة يقود في النهاية إلى تجاوز الفكرة ذاتها، يبدو أن استيعاب الواقع المثخن بالعوائق الذي تحد من تطوره والمقدرة على تجاوز هذا العوائق يتطلب فهم ما يسمى بالمدار الفكري (Paradigm) الذي يحكم هذا الواقع ويوجهه (كل واقع يتميز بمجموعة معقدة من العلاقات المتشابكة التي يطلق عليها مدار فكري)، من المتفق عليه أن استيعاب اللحظة الحاضرة وما تشكله من شبكة فكرية حاكمة ومهيمنة سيقودنا في المستقبل إلى تحقيق تحول في المدار الفكري السائد Paradigm Shift. ويمكننا تبسيط الفكرة قدر المستطاع من خلال ربط المدار الفكري الذي يميز الواقع بما تناولناه في مقالات سابقة حول «التراث الموازي» الذي يسعى إلى استيعاب اللحظة الراهنة من أجل تجاوزها للمستقبل، يمكن اعتبار التراث الموازي، في هذه الحالة، تراث بين تراثين، حيث يمثل التراث الموازي تراث الحاضر (وهو ما يعني أن التراث الموازي معني بتفكيك شبكة علاقات المدار الفكري السائد باستمرار) ويتوسط تراث الماضي وتراث المستقبل، لذلك فإن قوة اللحظة الحاضرة تشكل مفصلا أساسيا في صنع تراث المستقبل الذي يفرض أن تتطلع اللحظة الراهنة إلى المستقبل، الجدير بالذكر أن عملية بناء القرارات، كل القرارات، يفترض أن تمر بهذه العملية التفكيكية العميقة حتى نضمن، على الأقل، أننا استنفدنا جميع الفرص للوصول إلى قرارات مؤثرة وتساهم في تغيير الواقع. وبشكل عام، إن أي عملية تخطيط هي في الحقيقة سلسلة من محاولات فهم الواقع، ولأن الواقع غالبا ما يستعصي على الفهم ويتطلب مهارة لفك شبكة العلاقات التي تشكل مداره الفكري لذلك فإن «دراسة الوضع الراهن» تعتبر جزءا أساسيا في دراسات التخطيط، العمراني وغير العمراني. الملاحظ - للأسف - أن دراسة الوضع الراهن لا تؤخذ على محمل الجد وتتحول إلى جمع معلومات وإحصاءات بينما الأساس في هذا النوع من الدراسات هو فك الشيفرة المكونة للشبكة المركبة لبيئة الواقع، وما يسمى نظرية التركيب (Assemblage Theory) هي منهجية لدراسة وتفكيك الوضع الراهن وتركيبه مرة أخرى للوصول للشفرة المكونة للمدار الفكري لهذا الواقع، هذه المنهجية، وربما منهجيات مشابهة لها، لا يُلتفت لها نهائيا لأن أغلب القرارات تؤخذ عادة نتيجة لردة فعل نحو أحداث تمثل جزءا يسيرا جدا من شبكة اللحظة الراهنة، عندما أعود لواقع العمارة وشبكة العلاقات التي تشكل المدار الفكري للممارسة المعمارية وأحاول أن اختبر منهجية «التركيب» لغرض تفكيكها وفكها، لا أجد الأدوات التي تساعد على ذلك لأن هذا المنهج ليس ضمن تقاليد التفكير المتبعة لعملية اتخاذ القرار. لا يمكن تجاوز الواقع دون استيعابه، ولا يمكن استيعاب الواقع بالمشاهدة وجمع الشواهد والأدلة السطحية، على هذا الأساس يجب أن ننظر لعمليتي الاستيعاب والتجاوز على أنهما آليتان يشكلان منهجا واحدا لتفكيك الظواهر التي تحيط بنا ويعملان معا على مرحلتين «زمنيتين» أحدهما تسبق الأخرى وهي الاستيعاب، ثم تأتي مرحلة التجاوز لتمثل إشكالية أخرى تكمن في أمرين: الأول استعداد المجتمع (بمفهومه العام الواسع أو الفئوي المهني وغيره) أن يتجاوز الواقع الذي يعيش فيه، والثاني قدرة المجتمع على تجاوز الواقع، أي امتلاكه الأدوات والموارد وربما المعارف والتقنيات التي تمكنه من تجاوز الواقع.