"التراث الموازي" فرصة لإصلاح العقل الذي يتعامل مع النواة الإبداعية، فهو يهدف إلى تغليب التفكير العقلي على ما سواه، ويحرر هذا العقل من النقل والتقليد، ويربط النواة الإبداعية المولدة للحضارة بروح العصر الذي نعيشه، وبالتالي بتحولات معطيات العصر مع التقدم في الزمن.. دار حوار بيني وبين الصديق الدكتور وليد السيد -وهو مقيم في لندن- حول فكرة "التراث الموازي"، وقد كان مقتنعاً أن هذا التراث يجب أن يكون "حداثوياً" ولا يرتبط بالمسألة "الزمكانية"، أي أنه مستقل عن الزمان والمكان، فالفكرة تهتم بصناعة عقل جديد، وربطها بأي متعلقات زمانية أو مكانية مسبقة أو حاضرة، قد تجهض هذا التكوين الجديد الذي تطمح أن تحققه الفكرة. والحقيقة أن الانفصال عن السياق الزمني والمكاني له مخاطره المرجعية، فمن أين نبدأ؟ وإلى أين نسير؟ وما محطات الوصول؟ كان ردي أن لكل فكرة بداية ومرجع، ويصعب فصلها عن مرجعها، بل يجب كذلك أن يكون لها مسببات، فما الذي يدعونا إلى تبني فكرة جديدة إذا لم يكن هناك أسباب من الواقع تدعونا لها؟ الحوار طال كذلك "النواة الإبداعية" التي أحيل "التراث الموازي" لها كبداية مرجعية للعقل المستقبلي، فالدكتور السيد يرى أن الإحالة للنواة الإبداعية يعيدنا إلى الإشكالية التي أنتجت التراث التاريخي وهي بذلك تدخلنا في مأزق "إيديولوجي"، بينما أرى أن هذه النواة هي المخزون الكامن الذي يولد الحضارة، وكل حضارة يمكن أن تأخذ مسارات مختلفة باختلاف الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمعرفية والتي توجه تفسيرات العقل المكون لها. تطرقنا بعد ذلك إلى مفهوم "التراث" كمصطلح تحوم حوله الشكوك المعرفية، فلماذا "التراث الموازي"؟ بينما ترسخ معنى التراث من خلال ارتباطه بالماضي الموروث، فهو محصلة لعقل سابق تكون في الماضي، فكيف نربط التراث بالمستقبل ونقول إنه تراث لعقل لم يتشكل بعد؟ وحتى إن تشكّل فإنه عقل متجدد في جوهره لا يتوقف عند ما ينتجه من منتجات حضارية بل يتجاوزها باستمرار، بالنسبة لي أرى أن التراث منتج آني يتراكم مع الزمن، ويجب أن نفرق هنا بين مفهوم تراكم التراث، الذي أسميته التراث التاريخي، وبين تراث الواقع الممتد إلى المستقبل، الذي سيكون مع مرور الوقت تراثاً متراكماً وقد يعده البعض "تاريخياً"، هذا التراث الذي أسميته "التراث الموازي" هو فرصة لإصلاح العقل الذي يتعامل مع النواة الإبداعية، فهو يهدف إلى تغليب التفكير العقلي على ما سواه، ويحرر هذا العقل من النقل والتقليد، ويربط النواة الإبداعية المولدة للحضارة بروح العصر الذي نعيشه، وبالتالي بتحولات معطيات العصر مع التقدم في الزمن. قادني هذا الحوار إلى أهمية وضع بعض المبادئ التي تقوم عليها فكرة التراث الموازي، وهي مبادئ ليست نهائية وتحتاج إلى الكثير من التفصيل والبحث، ولكن لا بأس من تناولها هنا كمبادئ تشكل خارطة طريق للفكرة الجديدة، تم تطوير خمسة مبادئ أولية تمثل المجالات الأساسية التي تتشكل منها فكرة التراث الموازي، أول تلك المبادئ أن هذا التراث يتشكل في الحاضر من أجل تغيير المستقبل، أي أن الهدف هو خلق فضاء فكري/ عقلي يعيد تكون المنتج الحضاري وفق معطيات الحاضر المتجدد باستمرار، يمثل هذا المبدأ الهدف الأساسي، وهو التجديد العقلي المرتبط بالواقع أولاً وبالنواة الإبداعية كمرجع يمثل كينونة الحضارة التي ننتمي إليها، لذلك فإن المبدأ الثاني هو: الموقف من التراث التاريخي، فالتراث الموازي ينفصل عن جميع التفسيرات السابقة للنواة الإبداعية زمانياً ومكانياً، ولا يرجع إليها إلا كتجارب سابقة حاولت فهم النواة المولدة للحضارة، وبالطبع فإن هذا المبدأ يمثل نقطة الخلاف الرئيسة مع المدرسة التاريخية للتراث، ويشكل نقطة التحول الفعلية فإما نقبل بالتغيير أو نستمر في اجترار الماضي. وإذا كنا نتحدث عن الواقع، كونه منطلق التغيير وبيئته، لذلك فإن المبدأ الثالث للتراث الموازي يركز على فهم الواقع وتفكيكه نقدياً، فأي تحول لا يأخذ في الاعتبار الواقع المباشر والواقع الواسع الذي يربط وجودنا بالعالم، فهو تحول معزول ومحكوم عليه بالفشل، ولعل هذا المبدأ والذي يسبقه يؤكدان على أن "التراث الموازي" ينتهج مدرسة عقلية نقدية، لا تحدد الرفض والقبول لأي فكرة إلا بعد عرضها على هذا المنهج العقلي. المبدأ الرابع هو: "عدم الثبات"، أي أنه تراث متجدد وغير ساكن ولا يتوقف عند أي منتج حضاري ساهم في إنتاجه طالما أن الهدف من المنتج تجاوزه الزمن، هو تراث يتطلع للمستقبل باستمرار ولا يلتفت للوراء إلا من أجل التعلم فقط، وبالتالي فإن كل فكرة ينتجها هذا التراث تحمل بذور فنائها معها للانتقال إلى فكرة جديدة أكثر مواءمة للعصر الذي ستولد فيه، وأخيراً تمثل "النواة الإبداعية" المصدر لهذا التراث وهي المبدأ الأخير، ومن دون شك إن هذه المبادئ تحتاج إلى كثير من التفاصيل حتى تكون مفهومة بشكل أدق، ولعل الفرصة تكون مواتية في المقالات المقبلة للدخول فيها بشكل مفصل.