تفرض الأزمة خطابها المتازّم، ففي سياق ثقافة متأزّمة، كالتي تعيشها المجتمعات العربية - الإسلامية، يُستبعد ظهور خطاب عقلاني - موضوعي يصف الظواهر الاجتماعية والدينية والسياسية، إنما يغلب على خطاب الأزمة أن يكون مشحونا بالمصادرات الأيدلوجية، ومشبعا بالحمولات السجالية، فالمرجعية المنتجة للخطاب تجد نفسها متجلّية فيه، إذ لا ينفصل الخطاب عن مرجعياته إلا إذا صدر عن موقف نقدي أصيل يأخذ في الحسبان دور المعرفة في ترقية الأمم. وكلما جرى تفكيك التلازم بين الاثنين، فسح للمعرفة النقدية مكان تمارس دورها فيه في الترقية الاجتماعية. وإلى أن يحدث انفصال رمزي بين المرجعيات وخطاباتها، فسوف تبقى الأزمة قائمة، فيصعب الحديث عن خطاب نقدي مستقل إلا في حدود دنيا لا تتيح إمكانية فصم العلاقة بينهما. وينبغي التأكيد على أمر يكاد يصبح قانونا ثقافيا، وهو أن البطانة الشعورية-العقائدية، وهي تشكيل متنوّع من تجارب الماضي، والتاريخ، والتخيّل، والاعتقاد، واللغة، والتفكير، والانتماءات، والتطلعات، تؤلّف جوهر الرأسمال الرمزي للتجمّعات المتشاركة بها، أقول إن تلك البطانة المركّبة تعمل على جذب التجمعات البشرية الخاصة بها إلى بعضها، وتدفع بها إلى قضايا حساسة وشائكة لها صلة بوجودها، وقيمها، وآمالها، وقد تتراجع فاعليتها التأثيرية في حقبة بسب ضمور فاعلية عناصرها، لكنها قابلة للانبعاث مجددا في حالة التحدّيات والتطلّعات الحضارية الكبرى، وكل ذلك يتجلّى في الخطاب المعبّر عنها. ولا يُستبعد أن تُغذّى الخطابات بمفاهيم جديدة تدرج فيها من أجل موافقة العصر الذي تتجدّد فيه، وهذا هو الذي يبعث التفكير ثانية في الماضي ويصبح حضوره ملحّا حينما تشرف المجتمعات على حالات تغيير جذرية في قيمها، وأخلاقياتها، وتصوراتها عن نفسها وعن غيرها. ينبثق تفكير ملحّ بالماضي حينما يكون الحاضر مشوّشا، وعلى عتبة تحولات كبيرة إما بسبب مخاضات تغيير داخلي أو بفعل مؤثرات خارجية، وينعكس كل ذلك في الخطاب الممثّل لكل ذلك. تعيش "المجتمعات العربية- الإسلامية" ازدواجاً خطيراً تختلط فيه قيم روحية وقيم مادية، ولم تفلح في فك الاشتباك بينهما على أسس عقلية واضحة؛ فالقيم الأولى حبيسة النصوص المقدّسة وحواشيها، وقد آلت إلى نموذج أخلاقي متعال يمارس نفوذا يوجّه الحاضر انطلاقا من الماضي، أما القيم الثانية فقد غزت الحياة بشتى جوانبها، باعتبارها إفرازات لنمط العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في العصر الحديث بفعل المؤثر الغربي. وهكذا تداخلت جملة من القيم المختلفة في مرجعياتها ووظائفها، فلم تعد تلك المجتمعات قادرة لا على الدخول إلى قلب الحداثة ولا الانفصال عن الماضي، وظل خطابها مرتبكا لا يستقيم أمره على قاعدة منهجية واضحة. فهذا وجه أساس من وجوه خطاب الأزمة وإلى كلّ ذلك لم تستطع تلك المجتمعات أن تنجز فهما تاريخيا مطوّرا للقيم النصيّة الدينيّة، بما يمكّنها من إدراجها في صلب السلوك الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، والخطاب المعبر عنه، ولم تستطع، في الوقت نفسه، هضم كشوفات العصر الحديث في كل ما يتصل بالحياة الحديثة، وشروط الانخراط والمشاركة فيها. وبعبارة أخرى فإنها لم تتمكّن من إعادة إنتاج ماضيها بما يوافق حاضرها، وتعذّر على كثير منها التكيّف مع الحضارة الحديثة المنبثقة من الغرب، وعلى هذا فقد انشطرت بين قيم موروثة وقيم مستعارة، وحينما دفعها سؤال الحداثة إلى خانق ضيق، طرحت قضية الهوية، كقضية إشكالية متداخلة الأوجه ظهرت في خطابها ومواقفها. فالقائلون بالهوية التقليدية المميزة قدّموا قراءة هشّة للإسلام تقوم على فهم مدرسي ضيّق له يعنى بالطقوس، والأزياء، والتمايز، بين الجنسين، والحلال، والحرام، والطهارة، والتكفير، والتحريم، والتأثيم الدائم للنفس، وحجب فعالية العقل المجتهد، والذعر من التحديث في كل شيء، وإخضاع البشر لجملة من الأحكام، التي يسهل التلاعب بها طبقا لحاجات ومصالح معينة، وإنتاج أيديولوجيا استعلائية متعصّبة لا تأخذ في الاعتبار اللحظة التاريخية للشعوب العربية - الإسلامية، ولا العالم المعاصر، ولا تلتفت إلى قضايا الخصوصيات الثقافية، والدينية، والعرقية للأقليات، وسعوا إلى بعث نموذج أنتجته تصورات متأخّرة عن الحقبة الأولى من تاريخ الإسلام، يقوم على رؤية تقديسية للأنا وإقصاء للآخر، فحبس الإسلام في قفص ذهبي، دون أن يسمح له بالتحرّر من سطوة الماضي، وينخرط في التفاعل الحقيقي مع الحاضر، وحجبوا عن الإسلام القيم الكبرى التي اتصف بها كنسق ثقافي يقرّ بالتنوع والاجتهاد. من الصعب استدعاء نموذج أنتجته سجالات القرون الوسطى وفروضها وتعميمه على الحاضر، ومن المستحيل تطبيق فهم مختزل وهامشي للإسلام، أنتجته العصور المتأخّرة، فهم يقوم على التمايز المذهبي، والتعارض الطائفي، والانغلاق على الذات، وتبجيل السلطة، وتسويغ طاعتها، والتكفير، ونبذ الاجتهاد، وتجهيل الناس بحقيقة أحوالهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، كل هذا ضمن نمط من الحياة والتفاعل والمصالح والعلاقات التي تكاد تختلف عما كان شائعا إبَّان تلك الحقبة التي يفترض أن النموذج المطلوب ظهر فيها. وليست هذه وحدها هي العقبة الكأداء، إنما ترافقها أخرى لا تقل أهمية، وهي أنه لا يمكن تبنّي نموذج لمجرّد الرغبة فيه، فذلك أدخل بباب المحالات، فلا بد من كفاءة وتنوع يفيان بالحاجات المتكاثرة للناس. وفي جميع الأحوال لا يمكن تطبيق أي نموذج مستعار من الماضي لاستيعاب الحاضر، فالأحرى اشتقاق نموذج حي، ومرن، وواسع، ومتنوع، وكفء يأخذ في الاعتبار أوجه الحاضر، واحتمالات المستقبل، ويتجدّد بتجدّدهما، ولا ينغلق على نفسه، ولا يدّعي اليقين المعياري المستعار من حقبة تاريخية معينة مهما كانت أهميتها، ولا يزعم أنه يوصل إلى الحقيقة المطلقة، بل ينبغي عليه أن يتفاعل مع المستجدّات الداخلية، ويتناغم مع حركة التاريخ بشكل عام، ويكون جريئا في الحوار مع نفسه وغيره، ويتجنّب الانحباس داخل قمقم مغلق، ويترك للآراء والاجتهادات أن تتفاعل فيما بينها، ولا يتّكئ على السجالات اللاهوتية والمنطقية، إنما يقدّم نفسه نموذجا مفتوحا يُثرى بالاقتراحات والممارسات، ويفكّ نفسه من الأقواس التي تقيّده، فلا يدّعي أنه يقدّم الخلاص، ولا يعد بالنّجاة الكاملة. أما القائلون باحتذاء تجربة الغرب، واستعارة حداثته، والاندماج بعالم يمور بالكشوفات العلمية والفكرية والاقتصادية، فيتخطّون حقيقة لا تخفى، وهي: أن النموذج الغربي تولّد من نسق ثقافي خاص، فاشتّق من الحالة التاريخية للغرب، وتكمن كفاءته في أنه ثمرة ذلك الواقع، وقد تطور استجابة لواقع الغرب الذي تجري محاولات من أجل تعميمه ليشمل العالم بكل الصيغ الممكنة، ولكنّ ركائزه الأساسية مبنية على وفق الخصوصيات الثقافية، والسياسية، والاجتماعية، والتاريخية، الغربية، وتكمن الصعوبة في تقليده ومحاكاته، ناهيك عن نقله وتبنّيه. والحال هذه، فكثير من التوتّرات القائمة في العالم، يتّصل بالصدامات الظاهرة والضمنية بين النموذجين اللذين ذكرناهما، وقد انعكس ذلك في الخطاب الخاص به. لا يمكن تجريد نموذج من خصائصه الذاتية وفرضه على حالة مختلفة سواء أكان نموذجا دينيّا مستدعى من الماضي أم نموذجا دنيويا مستعارا من الآخر، فالواقع يحتاج إلى نموذج خاص لا يُشترط فيه التعارض مع النماذج الأخرى، إنما التفاعل معها. على أنه من الخطأ تجاوز المحددات الثقافية التي تلعب أدوارا حاسمة في تثبيت المعايير التفاضلية بين الشعوب، وكثيرا ما صاغت أو أعادت صوغ جملة من المعطيات الخاصة بمجتمع ما لتجعله يتصوّر بأنه أفضل من غيره، فالثقافة قادرة بفضل موقعها الرفيع على أن تجيز، وتهيمن، وتحلّل، وتحرّم، وأن تخفض منزلة شيء ما أو ترفع من مقامه؛ الأمر الذي يعني قدرتها على أن تكون الوسيلة الأساسية لتثبيت التّمايز في المجال الذي تعبّر عنه. ثم ان خطاب الأزمة يعبّر عن نفسه من خلال إشكالية الحداثة وملابساتها، ذلك أن الكلام عن الحداثة، بالنسبة للمجتمعات العربية- الإسلامية، ينطوي على مفارقة لا يمكن تخطّيها بأي شكل من الأشكال؛ لأنها متصلة بسلسلة من التطلّعات الحالمة الخاصة بالتحديث من جهة، وبسلسلة مضادة من الإخفاقات الحاصلة في الواقع من جهة أخرى. لكن القضية المثيرة للاهتمام هي أن كثيرا من تلك المجتمعات لم يقترب بعد إلى مخاض الحداثة، ولم يطوّر مفهوماً خاصاً بحداثته، ولم يراكم معرفة عقلية - نقدية تمكّنه من ملامسة الحداثة، قصدتُ بذلك الحداثة كمشروع لتغير البنى التقليدية في المجتمع والأفكار والتصورات، ومازال النسق المهيمن في العلاقات الاجتماعية نسقا إقطاعيا - أبويا يقوم على الطاعة والخضوع، ويحكمه التراتب الفئوي، والطبقي، والجنسي، والمذهبي، والقبلي، ومازال مفهوم الحريم شديد السطوة في قطاعات واسعة من هذه المجتمعات الأبوية في ثقافتها وعلاقاتها، وفي بعضها يشمل عالم المرأة بأجمعه، والتمايز بين المرأة والرجل يخضع لمفهوم الجُنوسة، أي التنميط القائم على فرضية تقول بأفضلية الذكور على الإناث. تقوم الحداثة الاجتماعية بتفكيك العلاقات التقليدية المعيقة للتطور، وبها تستبدل ضروبا مختلفة من العلاقات القائمة على التكافؤ والشراكة، وليس التمايز والتراتب، فتضع الجميع في منطقة مشتركة، وليس خلف الأسوار العرقية، والعقائدية، والمذهبية، والقبلية، والجنسية التي تحول دون التواصل والتفاعل، فلا غرابة أن يقوم الخطاب على شبكة من المسلّمات الخاصة بكل ذلك. يمكن وصف معظم المجتمعات العربية - الإسلامية بأنها "مجتمعات تأثيمية" أي أنها محكومة بنسق متماثل من القيم الثابتة أو شبه الثابتة، وتستند في تصوراتها عن نفسها وعن غيرها إلى مرجعيات عقائدية أو عرقية ضيقة، وتتحكّم بها روابط دينية أو عرقية أو عشائرية أو مذهبية، ولم تفلح في صوغ تصورات شاملة عن نفسها وعن الآخر، فلجأت إلى الماضي في نوع من الانكفاء الذي تفسّره على أنه تمسك بالأصالة، وهي مجتمعات أبوية التي يتصاعد فيها دور الأب الرمزي من الأسرة، وينتهي بالأمة، ولم تتحقق فيها الشراكة التعاقدية في الحقوق والواجبات بين أفرادها، وتخشى التغيير في بنيتها الاجتماعية، وتعتبره مهددا لقيمها الخاصة، وتؤثّم أفرادها حينما يقدِّمون أفكارا جديدة، ويتطلعون إلى تصورات مغايرة، ويسعون إلى حقوق كاملة، فكل جديد عندها نوع من الإثم، وكل ابتكار فيه نوع من المروق. وقد اعتصمت هذه المجتمعات بهوية ثقافية لا تريد التحوّل، ولا تقرّ به، ولم تتعرّف عليه بعدّ، ولاذت بتفسير ضيق للنصوص الدينية، وصارت مع الزمن خاضعة لمقولات ذلك التفسير أكثر من خضوعها للقيمة الثقافية والأخلاقية والروحية للنصوص الدينية الأصلية، وراحت تقدّس سردا خياليا عن نفسها وماضيها وتعتبره صائبا بإطلاق، وتسكت عن كل ضروب الاختلاف في تاريخها، وتعدّه خروجا على الطريق القويم. وبالإجمال هي مجتمعات لم تتمكن بعدُ من التمييز بين الظاهرة الدينية من جهة، والشروح والتفاسير والتأويلات التي دارت حولها، فتوهّمت بأن تلك الشروح والتفاسير والتأويلات هي الدين عينه، فأضفت قدسيّة عليها، وصارت تفكّر بها وتتصرّف في ضوئها، وتحتكم إليها، وهي تختلف باختلاف المذاهب والطوائف والأعراق والبلدان والثقافات والأزمان، وأنتجت تصورات ضيقة عن مفهوم الحرية والمشاركة، فعدتهما ممارستين ينبغي أن تمتثلا لشروط النسق الثقافي السائد، وأن تتمّا في ولاء كامل لشروط البنية الثقافية القائمة، فمفهوم الحرية ليس مشروطا بالمسؤولية الهادفة إلى المشاركة والتغيير، إنما هو مقيّد بالولاء والطاعة، وكل خروج على مبدأ الطاعة والامتثال للنسق الثقافي السائد، يعدّ ضلالة، لا يهدف إلى الاصطلاح إنما التخريب؛ لأن المرجعية المعيارية للحكم على قيمة الأشياء وأهميتها وجدواها مشتقة من تصوّرات منكفئة على الذات، ومحكومة بمفاهيم مستعارة من تفسير مخصوص للماضي، وقائمة على ثقافة الوعظ وليس على ثقافة الفكر. ولئن ذوبت نزعات الحداثة والعولمة بعض التخوم الرمزية الفاصلة بين الجماعات القومية والعقائدية، وفكّت الانحباس التقليدي المتوارث فيها، فإنها بذرت خلافا جديدا تمثله مفاهيم التمركز، والتفوق، والتفكير بسيطرة نموذج ثقافي على حساب آخر، وهو أمر نشّط مرة أخرى المفاهيم التناقضية-السجالية التي تخمّرت في طيّات القرون الوسطى، وصارت تُبعث بصورة إشكاليات الهوية، والخصوصية، والأصالة. يصلح الماضي أن يكون ذخيرة لا تستنفد لكل ذلك، ففي حالات الحراك الكبرى، والخيارات الصعبة، تفتح جعب التاريخ، ويطلق سراح التصورات الخبيئة في طياته. وبمواجهة عناد أخذ طابعا مصيريا، ينبغي التحذير من صور الماضي عبر نقدها، فالنقد يسهم في تأكيد الحقيقة التي تغيب في مثل هذه المنعطفات، وهي أن الذات كانت مكونا عاما ومشتركا، تبلور في ظروف تاريخية معينة، وأن التحديات المعاصرة لا ينبغي أن توهم أحدا بالتفرد المطلق في الزمان والمكان. تعيد العولمة تصنيف المجتمعات في ضوء معايير مختلفة، وتتأسس مواقف واضحة لاستخدام صور الآخر في المنازعات الثقافية، إلى الماضي حيث تبلورت فيه صورة الآخر، ولكي تنزع عن الثقافة مظاهر الغلو والتطرف فهي بحاجة إلى خطاب لا يستجيب للأزمة، إنما يقف منها موقفاً نقدياً.