سمعت مرة عن طبيب عربي مشهور بنجاحه وإتقانه الشديد للعمليات الجراحية المعقدة. كان هذا الطبيب بين فترة وأخرى يصر على أخذ إجازة قصيرة ولو أسبوع واحد يغلق فيها الجوال ويقطع اتصاله التام بالإنترنت ويتجه لقرية أوروبية صغيرة يعيش فيها حياة البسطاء. ووصل به الأمر أن أهل تلك القرية كانوا ينادونه باسم مختلف اخترعه كي يبتعد تماماً عن أجواء عمله المشحونة والمضغوطة... استغربت كثيراً عندما سمعت قصة ذلك الطبيب للمرة الأولى ولكني الآن أدركت أن كل ما يقوم به هو لكي لا يصل لمرحلة الاحتراق النفسي أو الاحتراق الوظيفي أو لإطفاء ذلك الحريق.. في الواقع، وخلال مسيرتي المهنية شهدت بنفسي حالتين لشخصين من اليابان قررا الاستقالة من وظائف مرموقة وبمرتبات عالية. الشخص الأول أخذ دورة في الطبخ وأصبح يعمل في مطعم بسيط في جامعة طوكيو. أما الآخر فغادر ليعيش كمزارع في إحدى قرى جزيرة كيوشو جنوباليابان. وعندما أسأل كليها عن السبب كان الجواب: كم بقي في العمر؟ حتى لو كانت الرواتب والحوافز عالية فلا تساوي شيئاً مقابل الدمار النفسي والبدني واعتلال الصحة الناتج عن الضغوط النفسية..لعل هاتين الحالتين شبيهتان لحد ما بقصة بطل الكتاب الشهير (الراهب الذي باع سيارته الفراري!) والتي تحكي وصول الإنسان لمرحلة الانهيار التام في حال إهمال الصحة والأسرة على حساب العمل والمال والعلاقات التجارية.. ولو رجعنا ما يقارب الخمسين عاماً للماضي، فقد تكون المرة الأولى التي ظهر فيها مصطلح (الاحتراق النفسي) للوجود في عام 1974م على يد عالم النفس (هيربرت فرودينبرغر) والذي كان يعمل في عيادة لعلاج المدمنين والمشردين في نيويورك. لاحظ الطبيب أن العاملين المتطوعين تعبوا للغاية مع ضغط العمل الشاق والضغوط المختلفة مما قادهم إلى الإصابة بالاكتئاب وفقدان الحماسة للعمل. وأطلق الطبيب هيربرت على هذه الظاهرة مسمى (الاحتراق النفسي) ووصفها بأنها إنهاك بدني ونفسي ناتج عن العمل الشاق لمدة طويلة. وهنا قد يتساءل البعض: كيف أعرف أنني مصاب بالاحتراق النفسي أو الوظيفي؟ هنالك عدد من العلامات ومنها: صعوبات في التركيز، الافتقار إلى الطاقة، عدم الرضا حيال الإنجازات والعمل عموما، قلة الصبر والتعامل بانفعال، شعور بخيبة الأمل تجاه الوظيفة والعلاقات المهنية، الشعور بصداع واضطرابات في المعدة والأمعاء أو شكاوى جسدية دون سبب طبي واضح بالإضافة إلى الأرق ومشكلات النوم. ولكن، ماهي المسببات لهذا الاحتراق؟ من أهم الأسباب: عدم القدرة على الموازنة بين الحياة والعمل وعدم التمتع بالإجازات، العمل تحت ضغط كبير ولمدة ساعات عمل إضافية طويلة، قلة أو انعدام الدعم الاجتماعي خاصة في بيئة عمل مضطربة ومليئة بالصراعات والمحاباة، طبيعة العمل الرتيبة أو الصعبة مثل الرعاية الطبية ناهيك عن التنمر وقلة الاحترام من المديرين وزملاء العمل. ونأتي إلى السؤال الأهم وهو: كيف نطفئ الاحتراق النفسي أو الوظيفي؟ من أهم النصائح ممارسة الرياضة بانتظام مما سيساعد على التوقف عن التفكير بالعمل. هنالك أيضاً التواصل مع الأشخاص الثقات من أفراد العائلة والأصدقاء أو الزملاء في العمل وطلب دعمهم ونصحهم ومشورتهم. ومن الجيد التحدث بصراحة مع المديرين ومحاولة وضع أهداف واضحة وطريقة عمل تضمن أداء أفضل. وينصح أيضا بممارسة الهوايات المختلفة أو تمارين الاسترخاء بالإضافة إلى أخذ قسط كاف من النوم وفي مواعيد منتظمة. وختاماً، تبقى النصيحة الخالدة في إطفاء الاحتراق الوظيفي وكل احتراق أو ضغوط نفسية في كلمات رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة:" أرحنا بها يا بلال"..