إذا ما كانت القراءة سلوكًا يتكون كما غيره من السلوكيّات، فما السر وراء تحفيز المجتمع على خلق هذا السلوك لديه؟ وكيف تدفعه لدرجة أن يصبح هذا السلوك جزءًا من الروتين اليومي له؟ سؤالٌ ليس من السهل الإجابة عليه، ولكن ربما تكون محاول الإجابة عليه بالمقارنة وممارساتٍ أخرى أهمّها وأولها ممارسة الرياضة المجتمعيّة التي ابتدأ الوعي بها يزداد إلى حدٍ لا بأس به، وبالتالي نلاحظ في السنوات الأخيرة ارتفاع معدل انتشارها اجتماعيًّا. كلّ سلوكٍ يراد خلقه في مجتمع ما فإنه بحاجة إلى محفزٍ جاذبٍ ومثيرٍ، إضافة إلى الوعي بتبعات عدم ممارسة هذا السلوك. ولم تصبح الرياضة المجتمعيّة جزءًا من سلوك واهتمام غالبيّة فئات المجتمع إلا بعد توفر عدة اشتراطات في إطارٍ عامّ مؤسّسيّ، وعلى عدة مستويات، أبرزها إلى جانب توفر البنى التحتيّة والإمكانات طبعًا وهذا جانبٌ من التحفيز، التوعية بمخاطر عدم وجود هذه الممارسة في الحياة اليوميّة، ومشاهدة المجتمع لأضرارها أمامهم مباشرة متمثّلة بالسمنة والأمراض الأخرى التي تمت الإشارة إليها وربطها على أنها سببٌ مباشرٌ لعدم ممارسة هذا السلوك البدنيّ، بالتوازي أيضًا مع إظهار كلّ ما هو ضروريّ من الإيجابيّات الناتجة عنها، وذلك جانبٌ آخر من التحفيز المطلوب. كذلك هي القراءة لن تكون سلوكًا وجزءًا من الحياة اليوميّة للمجتمع دون أن يكون لها محفزٌ جاذبٌ ووعيٌ بآثارها الإيجابيّة على غرار تسهيلها لجوانب كثيرة من الحياة التي تقترن دائمًا بتوسع المدارك العقليّة التي تعززها بلا شك القراءة العامة والاطلاع على مجالاتٍ مختلفةٍ سواء كان ذلك عبر القراءة الرقميّة أو الورقيّة، فكلاهما سيّانٌ في إيجاد التراكم المعرفيّ المهم واللازم في حياة الفرد. وفي الوقت عينه، يجب أن تكون هنالك دراية تامّة بالتبعات السلبية التي تظهر على الفرد والمجتمع حين يمتنع عن ممارسة هذا السلوك ويبتعد عن القراءة، وذلك ما يجب إظهاره بوضوح عبر المناهج التعليمية جنبًا إلى جنبٍ والتربية السلوكيّة والأخلاقيّة التي تتوفر للطلاب في المدارس، بكيفيّة يتم من خلالها تقديم القطيعة مع القراءة والاطلاع عمومًا على أنهما أحد مسببات الصعوبات الحياتيّة الكثيرة والمختلفة، وبدونها قد لا يتمتع الفرد بالقدرة المطلوبة على إحداث تغيراتٍ وتطوراتٍ على المستوى الشخصيّ والذهنيّ والنفسيّ أيضًا، كذلك لا يتحلّى بالمرونة الفكريّة الكافية لفهم التحولات المستمرّة من حوله، مما يجعله رهن الحاجة دائمًا إلى المساعدة للتخلص من التعقيد الذي يشعر به في بعض الأفكار والمجالات، هذا عدا غيرها من صعوباتٍ شتى. إن التحفيز على ممارسة سلوك القراءة، وخلقه قبل ذلك، عمل منظومة متكاملة تنضوي تحت سقفها المؤسّسات والأفراد، ومما لا شك فيه أن الدور الأعظم يقع على عاتق المؤسّسات الثقافيّة على اختلاف قطاعاتها، لا سيّما الرسميّة منها، وتحديدًا فيما يخص سلوك القراءة والاطلاع عمومًا بالتعاون مع الجهات الأخرى المختصّة ذات العلاقة بتربية النشء، علاوة على توفير الكتاب في الأماكن العامّة وسهولة الوصول إليه، فضلاً عن إقامة مسابقات القراءة الدوريّة بمكافآت مجزيّة، إضافة إلى غيرها من الأفكار والمهام الجسيمة الملقاة على عاتق المؤسّسة، ولا يقل دور ومهمة الفرد الذي ينتمي إلى المجال الثقافيّ من حيث الأهميّة عن دور المؤسّسة، فهو مطالبٌ أيضًا على الأقل بإظهار فضل القراءة عليه وتبيانها للآخرين بأي طريقة كانت، وأن يضع خلق هذا السلوك ورفع منسوب القراءة في المجتمع نصب عينيه وجزءًا من أهدافه، إذ إنّ جميع ما يقال عن الوعي والتغيير في المجتمع لا قيمة له دون التركيز على المحرّك الأساس والأداة الجوهريّة ألا وهي القراءة ثم القراءة ثم ما بعدها، لأنه ثمة علاقة طرديّة بين القراءة والتغيير على عدة مستويات، لدرجة أنّه كلما صنعت قارئاً فإنكَ حتمًا قد أحدثت فارقًا كبيرًا في المجتمع.