من غير العسير الوقوف على الحقيقة المفزعة، التي تشير إلى عزوف الشباب عن ارتياد المكتبات للاطلاع، أو زيارة معارض الكتب، التي تقام بين الفينة والأخرى، وعدم الرغبة في اقتناء الكتب الرصينة.. هذه الظاهرة يقرأها عدد من الباحثين والمثقفين من وجوه مختلفة، مشيرين إلى أن المجتمع والمدرسة والأسرة ووسائل الإعلام أسهمت بصور مختلفة في هذا الوضع المختل، بجانب عوامل أخرى ماثلة في الانغماس في الحياة من نوافذها المفرغة من أي مضمون، بما أهدر قدرة وطاقة الشباب للاستفادة منها في تحصيل معرفي يمكنهم من المساهمة الفاعلة في مجتمعهم بصورة مستنيرة وواعية.. جملة هذه الأسباب وتحليلاتها في سياق هذا التحقيق، قرينة بحلول ربما تسهم في حل المشكلة بصورة تجعل من المعرفة والاطلاع والقراءة في سلّم أولوليات واهتمامات الشباب. في البدء تقول الدكتورة عائشة الحكمي أستاذة الأدب بجامعة تبوك: إن الحياة المعاصرة تكتظ بكل شيء يرتقي بحياة الإنسان المادية والفكرية؛ فأصبح حائرًا أي الطرق يسلك صوت يناديه نحو التمتع بالحياة الآنية وترك المستقبل للمستقبل، وصوت يشده على ترشيد الانغماس في الحياة من خلال جهد الآخرين، ممّا شكل صعوبات أمام الشباب الذي أصبح لعبة في يد المجتمع الكلي والجزئي الأسرة، إذ لم يعد الشاب يعرف من الأصح: الأسرة تريده سعيدًا يعيش حياته في أحسن حال؛ معافى يأكل أحسن أكل ويلبس أحسن لبس وكأنه دمية يحركها عارض العرائس. أمام هذا الموقف لا بد أن يجد الشاب نفسه منعزلًا عن الحياة الجادة، مجرد لوحة إنسانية تستهلك كل شيء دون إضافة، يشعر كأن كل شيء مسخر له، فكل العوامل الأقرب لحياة الشباب تسهم في تهميشهم: الأسرة، المجتمع،المدرسة. لهذا ووسائل الإعلام. وتمضي الحكمي في تشخيص الحالة الراهنة للشباب مضيفة: النشء بحاجة إلى إحساس الأسرة والمدرسة بدورهم المهم في بناء شخصية الفرد، الأسرة موضع القدوة الأول والتربية بالقدوة أكثر فعالية، الطفل يحتاج سلوكًا عمليًّا ملموسًا يقلده، وللأسف طفل اليوم يشاهد لهاث الكبار وراء مصالحهم وتأمين حياة أكثر رفاهية للأسرة وعلى الطفل/ الشاب أن يتفرغ للدراسة ثم يأتي دوره، لكن كيف يدرس؟ المدرسة تطبطب على عقولهم ثم أجسادهم عملًا بتوجيهات المدرسة التربوية الحديثة، هذا جيد؛ لكن أين البديل العملي، أدخلوا الشباب في مواقف يكتسب منها المعرفة ووسائل اكتسابها، أين المعرض الدائم للكتاب في المدرسة؟ أين حضور الكتاب في غرفة الشاب، أين الكتاب في المنزل، في الحافلة، في السيارة، في السوق المركزي، في المنتزهات، في المراكز الترفيهية، في الاستراحات في المطاعم، حرص المستثمر على غرس أكشاك القهوة في كل أركان الطرق الطويلة والقصيرة لكن أين أكشاك المعرفة /كتاب، أقراص كمبيوتر مجلات، صحف. الاتجاه نحو الاحتفاء بالمعرفة سلوك حضاري والحرص على ذلك تراكم تربوي أسري مدرسي إعلامي، علينا أن نبدأ نحن الكبار باستيعاب ذلك وابتكار أساليب جديدة لنا نحن كيف نحب الكتاب، وكيف نرسله إلى الآخرين. ولكي تسهل المهمة لا بد أن تمنح الدول الكتاب كل الاهتمام. وتضع الحكمي الحل في سياق قولها: ياليتنا نجرب أن نسوق الكتاب كما نسوق الصحيفة، نجعل ثمنه ريالًا وبعض الهدايا المحفزة والمسابقات، والجوائز مغرية أيضًا، الشباب يفضّل الحصول على النقود بأسهل وسيلة؛ فاجعلوا ذلك مصيدة، مكوناتها أوراق الكتاب على أن يكون مضمون الكتاب يهم الشباب: الموضة، السيارات، التكنولوجيا على أن ترعى وسائل الاعلام المقروءة والمرئية مسارات الشباب نحو الكتاب والمعرفة تبث فيهم الحماس، الشباب يحب الشهرة اجعلوهم يشتهرون بواسطة المعرفة. مكتبات قليلة أما الدكتور عبدالعزيز العمران أستاذ المكتبات بجامعة الملك سعود فيشير إلى أن القراءة والاهتمامات الثقافية أمر لا بد من زرعه في عقول وعادات الأطفال منذ نعومة أظفارهم، ماضيًا إلى القول: لا يمكن أن تخرج بمجتمع قارئ والمناهج الدراسية وطرائق التعليم لا تشجع على ذلك، بل تكرس ثقافة “المذكرات” لتبعد الطالب حتى عن منهجه وكتابه الدراسي. كما أني أختلف مع من يقول بانتشار المكتبات العامة في المملكة، فهي أقل بكثير مما يحتاجه المجتمع. فالمواطن عندما يحتاج إلى استخدام السيارة يقطع مسافة ليست باليسيرة للوصول للمكتبة، لهذا فهو لن يزورها مرة أخرى. يجب أن تنتشر المكتبات العامة في كل زاوية وكل حي، كما يجب أن تتاح مصادر المعلومات الإلكترونية للجميع ويربط استخدامهما مع المناهج؛ وعندئذ ستخرج لنا أجيال تستمتع بالقراءة ولا تستغني عن المكتبة وتزور معارض الكتب للاستفادة منها وليس للظهور فقط. مصادرة الوعي والخيال مشاركة الدكتور صالح زياد أستاذ النقد بجامعة الملك سعود تجلت في قوله: الإنسان كائن قرائي، والقراءة -بالمفهوم العام للقراءة وليس بحدِّه في قراءة الكُتب- ممارسة بشرية، لا يستغني عنها أحد؛ لأن هذا يعني تجريده من القوة الفاهمة، أي قوة الوعي بوجوده والتعاطي مع هذا الوجود. لكن القراءة للكتب وشراءها وارتياد المكتبات هي دائرة ضيقة في إطار المجتمعات الإنسانية، وهي أكثر ضيقًا في مجتمعاتنا العربية تحديدًا. والأسباب التي تعود إليها هذه الظاهرة، تكمن في وظيفة القراءة، من حيث هي ضرورة بحث وتعلُّم، وليست تسلية وتزجية وقت. فقد كانت القراءة جزءًا أساسيًا من وسائل التسلية وقضاء وقت الفراغ، يوم أن كانت وسائل التسلية واللعب قليلة ومحدودة. فلم يكن التلفزيون فضائيًا ومتعدد القنوات، ولم يكن الإنترنت بما يقدمه من تواصل ولعب واستماع ومشاهدة... إلخ قائمًا. ولم تكن أجهزة الألعاب الإلكترونية بهذا الاستبداد الفظيع على الشباب. ولهذا تبدو القراءة الجادة في الكتب في دائرة المهتمين ممن تربطهم بها علاقة عمل ووظيفة اختصاص، وهي دائرة ليست واسعة في كل المجتمعات. ويواصل زياد حديثه بقوله: لدينا تحديدًا تبدو هذه الدائرة أكثر ضيقًا؛ لأننا لا نسعى إلى توسيع المعرفة وتطويرها والإضافة عليها. مجتمعاتنا تقتل في أطفالها وشبابها الفضول المعرفي وأحاسيسه ونوازعه؛ لأن الوعي الغالب عليها يصادر الفعل الإنساني تجاه المعرفة المرتبط بمفهوم المعرفة ومصادرها ووظيفتها بوصفها فعلًا إنسانيًّا ومعطى إنسانيًّا. وهو يصادر هذا الفعل لأنه يصادر الوعي والعقل والخيال والفردية، ويصادر الحوار والسؤال ويصادر المسؤولية. متى يقرأ الإنسان الكتب قراءة حرة؟ حين تتولد لديه أسئلة، لا يرضى بإجابة أحد بعينه عليها، وهو لا يرضى بالإجابة لأنه يعتقد أنه مسؤول عن قناعاته، ومن ثم عليه أن يبحث هو عن الإجابة، وبحثه عنها يسلمه إلى مزيد من المعرفة، التي تستدعي بدورها مزيدًا من القراءة، إن حال القراءة عربيًّا ينضح بالألم لضآلتها وقلة مساحتها أو نُدْرتها في نشاط الناس، ولزهدهم في الكتاب، وهوانه في عيونهم. ويأخذ هذا الألم في تعميق الشعور به وجهات مختلفة؛ فالمقارنة بين الشعوب والثقافات تُفصح عن تخلفنا في حسابات القياس لرواج الكتب وعدد مرتادي المكتبات واستخدامات الاتصال بالنت لأغراض البحث والاطلاع. وإحصاءات الكتب المطبوعة المؤلَّفَة والمترجَمَة وأوعية المعلومات هي في مجموع عالمنا العربي أقل منها بكثير في دول العالم المتقدمة والساعية إلى التقدم. والاستطلاعات التي قامت بها بعض الصحف ومراكز البحث والقياس، أو التي يُعْرِب عنها الموكول إليهم امتحانات المتقدمين لوظائف التعليم والإعلام والإدارة ومقابلاتهم الشفهية، أو ما تعانيه الجامعات، توقفنا على فجيعة الأمية الثقافية وفقر الحصيلة المعرفية الجادة بشكل يندى له الجبين! ويعضد زياد الصورة التي رسمها لبؤس العالم العربي أمام الكتاب والقراءة بمثال ساقه في ثنايا قوله: لقد تضمن كتاب أشرف بكر “ماذا يقرأ عرب اليوم” (الدوحة، 2007م) إحصاءات عديدة، استقاها من مصادر شتى منها التقارير السنوية عن التنمية البشرية الصادرة عن الأممالمتحدة ودراسات صادرة عن اليونسكو وغيرها. وهي تشير إلى أن معدل ما يخصّصه المواطن العربي للقراءة سنويًّا هو عشر دقائق، وأن المعدل العالمي السنوي للقراءة لدى الفرد الواحد في العالم العربي هو رُبع صفحة، ولا يزيد الوقت المخصص للقراءة الاطلاعية عند الطفل العربي (دون احتساب وقت القراءة المدرسية) عن ست دقائق في العام. وتشير إلى كتاب واحد فقط لكل ثلاثمائة وخمسين ألف عربي، في حين تبدو الثقافة المعلوماتية لدى الأغلبية الساحقة من الطلبة العرب غير بعيدة عن الصفر. أما عدد النسخ المطبوعة من كل كتاب في الدول العربية فتتراوح بين 1000 و5000 نسخة، وعدد الكتب التي تُرجمت إلى العربية خلال ثلاثة عقود (1970 - 2000م) لم يصل إلا إلى 6881 كتابًا، والنشر الإلكتروني لا يكاد يذكر في الدول العربية إلا على استحياء. ولن نكتشف مدى ما تدلِّل عليه هذه الأرقام العربية البائسة إلا بمقارنتها بالأرقام الإحصائية عن الموضوع نفسه في أمثلة مختلفة من دول العالم. فالإحصاءات نفسها تشير إلى أن معدل زمن القراءة لدى الإنسان الغربي يصل إلى ست وثلاثين ساعة سنويًّا، أي 360 مرّة أكثر من العربي، والمعدل العالمي السنوي للقراءة لدى الفرد الواحد يصل إلى أربعة كتب، -وعلى سبيل المثال لا الحصر- يصل ذلك المعدل في أمريكا إلى أحد عشر كتابًا، وفي انجلترا إلى سبعة كتب، ومثلها في إسرائيل. وفي شأن الحساب للكتب قياسًا على عدد السكان، نجد النسبة في أوروبا –مثلًا- هي كتاب واحد لكل خمسة عشر ألفًا. أما عدد الكتب المطبوعة سنويًّا، فإنها في إسبانيا فقط توازي ما طبعه العربُ منذ عهد الخليفة المأمون الذي قُتل عام 813م وحتى يوم الناس هذا، وعدد النسخ المطبوعة من كل كتاب في دول الغرب هو 85 ألف نسخة. وتَذْكر الإحصاءات مفارقات مهولة تضاعف الإحساس العربي بالبؤس في شأن الطباعة، فما تستهلكه دار نشر فرنسية واحدة هي “غاليمار” من الورق يفوق ما تستهلكه مطابعُ العرب مجتمعة من المحيط إلى الخليج. أما عدد الكتب المترجمة، فما ترجمه العرب من الكتب خلال ثلاثة عقود لا يعادل إلا ما نُقِل إلى اللغة الليتوانية التي يبلغ عدد الناطقين بها قرابة أربعة ملايين إنسان فقط! والعرب لا يترجمون خُمس ما يترجمه اليونانيون. وفي مقابل ضآلة النشر الإلكتروني العربية نجد أن الكاتب الأمريكي ستيفين كينج باع 41 ألف نسخة من إحدى رواياته على النت خلال 15 ساعة من إصدارها. وسيطول العرض لو ذهبنا إلى تفاصيل أخرى بشأن المقارنة في أعداد الصحف والمكتبات والجامعات والتأليف والابتكار... إلخ. إن الإنسان كائن قارئ، والقراءة –بالمفهوم العام للقراءة وليس بحدِّها في قراءة الكُتب- ممارسة بشرية، لا يستغني عنها أحد؛ لأن هذا يعني تجريده من القوة الفاهمة، أي قوة الوعي بوجوده والتعاطي مع هذا الوجود. لكن قراءة الكتب والمؤلَّفات بمعدلات إحصائية عالية اجتماعيًا علامة وعي معرفي متقدم، وهو وعي ينبئ عن المدى الذي تطلقه ثقافة المجتمع وتشريعاته للفردية وما تستلزمه من حرية واستقلال ومسؤولية؛ فالفردية هكذا هي التي تفجِّر العبقرية والإبداع وتنمو بالمعرفة وتضيف إليها، وتدفع الإنسان إلى العمل لأنه يغدو عندئذ مبرر وجوده. ومؤكدا أن الفردية بهذه الصفة تستلزم القراءة وتُنْتِجها، فالفرد بحريته واستقلاله ومسؤوليته في حاجة إلى رحابة الخيال وإلى اتساع مخزون عقله من المعلومات، وفي حاجة إلى فهم الآخرين في تعددهم وفي اختلافهم، والتعبير عن ذاته. كأنَّ وجود الفرد، هكذا، ضَيِّق، لا اتساع له إلا بالقراءة وفيها. ويتابع زياد حديثه: لدينا تبدو دائرة القراءة والاطلاع محدودة وضيِّقة، بالمعنى الذي يساوي جهدنا ورغبتنا في توسيع المعرفة وتطويرها والإضافة إليها. وهو جهد محدود وضيِّق -كما رأينا في الأرقام- لأن مجتمعاتنا متغوِّلة على الفردية؛ فالوعي الغالب عليها يصادر الفعل الإنساني تجاه المعرفة المرتبط بمفهوم المعرفة ومصادرها ووظيفتها بوصفها فعلًا إنسانيًّا ومعطى إنسانيًّا. ونتيجة ذلك أن مجتمعاتنا تقتل في أطفالها وشبابها الفضول المعرفي وأحاسيسه ونوازعه، وتصادر الوعي والعقل والخيال، وتصادر الحوار والسؤال وتصادر المسؤولية. ويمكن للمرء أن يرى في برامج الإفتاء –مثلًا- التي تمتلئ بها القنوات التلفزيونية والإذاعية، دليلًا كثير من العقول التي لا تقرأ ولا تريد أن تقرأ لأنها بلا مسؤولية ذاتية تجاه ما تعتقده حتى في أمور دينها. ويختم زياد قائلًا: متى يقرأ الإنسان الكتب قراءة حُرَّة؟ حين تتولَّد لديه أسئلة، لا يرضى بإجابة أحد عليها، وهو لا يرضى بإجابة أحد لأنه يعتقد أنه مسؤول عن قناعاته، ومن ثم عليه أن يبحث هو عن الإجابة، وبحثه عنها يسلمه إلى مزيد من المعرفة التي تستدعي بدورها مزيدًا من القراءة. تجاوز التلقين ويقرأ الدكتور صالح الزهراني أستاذ البلاغة بجامعة أم القرى المفهوم الخاطئ الرابط بين المعرفة بوصفها ضرورة لسوق العمل بقوله: نحن مجتمع مقولب على أن القراءة واجب مفروض للحصول على الشهادة التي تتيح فرصة للعمل، وليست بناء لوعي الإنسان وصقلا لقدراته، ولكي توجد جيلًا شغوفًا بالمعرفة لا بد من وجود رؤية واضحة وفق أهداف محددة لتحفيز الجيل الجديد على القراءة. أعتقد أن القراءة ليست أولوية لدينا حتى لدى العائلات التي تحرص على أن يكون أبناؤها في الطليعة، فالهدف هو الجامعة والوظيفة، أما أن يخطط رب الأسرة لبناء عقلية ناقدة لدى أولاده فهذا نادر جدًّا. يجب أن يسهم في إشاعة هذه الثقافة الإعلام، والبيت، وتوجد مكتبات متخصصة في المدارس والجامعات والأحياء، وتوضع الحوافز، والجوائز التقديرية، والرحلات التكريمية العالمية للمتميزين، ويتم الإشادة بهذه النماذج، وسنكتشف أننا هيأنا المجتمع لوعي جديد. والقدوة هي بوابة النفوذ، لا يمكن لأب لا يقرأ، أو معلم مشغول بمكاتب العقار أن يصنع طالبًا قارئًا، يجب أن يصدق الطالب أن الذي ينصح يلتزم أولا بالنصيحة، والمبذر لا يمكن أن يقبل منه الناس فلسفة الادخار فهو طبيب يداوي الناس وهو عليل. ويتابع الزهراني حديثه بقوله: نعم لدينا بعض الشباب يقرأون؛ لكن ليسوا في مستوى الطموح، ويجب أن تكون لدينا معارض لكتب الأطفال، والشباب، وتكون القراءة الحرة، والحوارات العلمية حولها، وتعليم استراتيجية القراءة، وتقرر مادة البحث العلمي على الطلبة في المرحلة المتوسطة وما بعدها، ولو كانت بحوث جماعية تحت إشراف مدرس متخصص ترصد فيها المشكلات، ويحفز الطلاب للإسهام في حلها، ويجمعون المادة العلمية من مصادرها، ويقفون على أرض الواقع ليروا المشكلة ويفكروا في الحل، ولن يتحقق هذا إلا بنظام تعليمي يتجاوز نظام التلقين الحالي. سلق المعلومات الشاعرة والتربوية فاطمة الغامدي تقول: لقد قل العلم عامة والقراءة خاصة منذ تقلصت علاقة الطالب بالمعلم إلى علاقة مؤقتة تبدأ قبل الاختبارات بفترة وجيزة وتنتهي بعدها مباشرة، فنحن في زمن سلق المعلومات والثقافة أمرها لله، والحل في رأيي إعطاء اللغة العربية حقها من الاهتمام، وإعداد معلمين متمكنين من تقنيات التعليم، تشجيع القراءة وتوجيهها كما سيحدث في كتب العلوم مستقبلًا، ووضع اختبارات على القراءات الموجهة. أسباب المشكلة التربوي سعيد الغامدي أشار في مستهل مشاركته إلى أن القراءة بوابة العلم ومفتاح المعرفة بها تسمو الذائقة وتستنير الأفكار وتنداح الرؤى وتثبت المعلومة ويستمر الإثراء المعرفي، ماضيًا من ثم إلى استعراض أسبار عزوف الشباب عن القراءة بقوله: تكمن المشكلة في عزوف الشباب عن القراءة واقتناء الكتب في عدة أسباب منها؛ عدم تعويدهم على القراءة من الصغر لأن التعود يسبب الإدمان، وعدم اهتمام القائمين على التعليم بترسيخ القراءة كمنهج يعول عليه التدريب والترغيب والاطلاع ورفع النمو المعرفي الذاتي من البدايات المبكرة في المراحل الدراسية، وعدم وجود مقرات ومرافق اجتماعية في الأحياء تسهل الوصول للمعرفة والحصول عليها عن طريق مكتبات معتنى بها تجذب القارئ وتعين الآباء على اصطحاب أبنائهم لها، وعدم وجود مكتبات مدرسية مجهزة وداعمة للبحث والتقصي من قبل الطلاب، وعدم وجود مادة تعنى بالبحث العلمي المبسط للمرحلة الابتدائية والمتوسطة تشجع الطالب على البحث والتقصي والكتابة والتلخيص، كما أن التقويم المستمر الذي طبق بطرق خاطئة لم يتح للطالب فرصة التعود على توظيف المهارات الأساسية كما يجب وأهمها القراءة والكتابة، بجانب إهمال معظم الدكاترة للبحوث وطلبها من الطلاب ولو قدر لهم أن يكون البحث العلمي ضمن متطلبات النجاح في كل مادة لتغير الحال خاصة بين طلاب وطالبات الجامعات. حرب على العامية الباحث والمدرب في التنمية البشرية سعد الحارثي أكد ما ذهب إليه السابقون من وجود أزمة قرائية وسط الشباب، ويرد ذلك إلى جملة من الأسباب ضمنها في قوله: أرى أن السبب في عدم تفاعل قطاع الشباب مع معارض الكتاب والمكتبات يعود إلى عدم الشعور العام بأهمية وقيمة المعرفة بمفهومها الشامل، وعدم الإدراك الجماعي العام بأن المجتمع الذي يمتلك العلم والمعرفة هو من يصنع الفارق، كما أن تسطيح المعرفة واعتقاد البعض أنها مختزلة في برنامج فضائي أو مقال أو باحث الشبكة العنكبوتية أسهم أيضًا في ذلك، بجانب غياب مفهوم أن العلم والمعرفة هاجس وفكرة تنتج شعورًا محفزًا إلى سلوك متجدد يستثمر هذه الأدوات التي منحها الخالق للإنسان، وعدم قيام الأسرة بدورها في تعميق حب القراءة في نفوس الأطفال، وإخفاق المدارس في جانب التحفيز والدفع إلى حب الكتاب لدى الطالب بسبب الأساليب التلقينية التقليدية التي تجاوزتها التجربة البشرية الحالية، كذلك إهمالها لجوانب مهمة كتكليف الطالب بإعداد البحوث العلمية ومناقشته بعلمية وموضوعية وإهمال مادة القراءة في التعليم العام والنظر إليها على أنها مادة تكميلية. واستنادًا إلى الأسباب التي ساقها؛ يضع الحارثي حلولًا للمعضلة بقوله: أما الطرق التي يمكن أن يستنهض بها الشباب والمجتمع بصفة عامة لتبقى القراءة فعلًا نشاطًا وسلوكًا ممارسًا باختيارنا في حياتنا اليومية فتتمثل في الانعتاق من الثقافة الشعبية الشفوية، التي يتعاطاها الأمي والمتعلم والارتقاء إلى الثقافة العليا التي تؤخذ من الكتاب العلمي لأننا في عصر العلم، وإيجاد مصاد ودفاعات صلبة وداعمة بواسطة الإعلام الرسمي ومنابر الخطب وجهود المثقفين والمفكرين تقاوم وتدفع هذا التيار العامي المتسلط في القنوات الفضائية الشعبية وغيرها ممن تسمى ترفيهية، التي ساهمت في تخلف الوعي العام، وإبراز الكتاب كقيمة راقية وعنوان حضاري للمجتمع وتسهيل الوصول إليه من ناحية العرض والسعر وجودة المحتوى، ونزول المثقف من برجه العاجي وكشف غطاء النخبوية ليتسني للمجتمع الاقتراب من حمى الفكر وجسد الثقافة كي تستعيد حيويتها ونشاطها بعد أن سجنت ظلما في عقول أدعيائها. الشاعر ماجد الغامدي قال: القراءة نافذةٌ مورقةٌ إلى عالم المعرفة وروضةٌ نضرةٌ من فردوس الثقافة ويكفي للدلالة على أهميتها أن أوّلَ ما نزلَ من القرآن (اقرأ) ولكن للأسف الشديد أصبحَ الاهتمامُ بها في مجتمعنا خاصةً هامشيًّا إن لم يكن معدومًا، وهو نتيجة تراكمية للإهمال والتغافل وعدم التبصّر بدأت بعدم اكتراث الوالدين واتسعت بعدم وجود سياسة تعليمية تحث النشء على القراءة وتشجع على ممارستها، فلا توجد أوقات مخصصة للمكتبات في المراحل الدراسية الأولى، وإن وجدت فعلى استحياء تفتقر للتنظيم المثمر كأن يُتاح للطالب وبطريقة ترغيبية قراءة كتاب منتقى من المكتبة أسبوعيًّا مثلًا واستخلاص بعض فوائده على الأقل حتى كبر الجيل مكتفيًا بجانب معرفي عام من المقررات والسماع والمشاهدة، وساهمت مغريات العصر وجوانب الترفيه المختلفة في صرف النشء والشباب عن البحث المُجدي والجاد عن الكسب المعرفي بل إن الكثيرين قد أدمنوا القراءة العبثية أو غير المجدية في أقل الأحوال عبر المنتديات محدودة الأُفق واكتفى بذلك عن اقتناء الكتاب (خير جليس) حتى أصبح من يقرأ كتابا في مثار استغراب وبذلك اتسعت الهوّة بين الشباب والمكتبات ومعارض الكتب.