منذ شهرين تقريباً توفي الشيخ المربي والمُعلّم عبدالرحمن بن حمد آل الشيخ -رحمه الله-، كان خبر وفاته فاجعة ومصيبة لذويه وأسرته وأصدقائه ومحبيه وعارفيه؛ لأن رحيله كان فجأة، كان محبوباً عند الجميع ومحترماً ومقدراً، خاصةً لدى طلبة العلم والدعاة، ولا شك أن هذا الاحترام والتقدير والمحبة يرجع إلى صفات وأخلاق وشمائل وهبها الله له، وبحكم معرفتي به القديمة حينما كنا نطلب العلم على شيخنا عبدالله بن قعود -رحمه الله- عرفت فيه رقة الطبع ودماثة الأخلاق ورقي التعامل وسماحة النفس وطهارة القلب وسلامته، بل كان حديثه جذاباً وممتعاً ومغرياً للاستماع، فضلاً أنه كان خفيف الروح وليس ثقيلاً عن النفس، إذا تحدثت معه لأول مرة كأنك تعرفه من عشرات السنين، وهذه صفة ليست لكل أحد من الناس، وما ذلك إلاّ لطهارة ونقاء قلبه، وكانت هذه الصفة من أجل صفات عبدالرحمن، فهو يحسن الظن بالآخرين، طبعاً مع التيقظ والتفرس، فهو ذو بصر وبصيرة وإدراك ومعرفة واستشراف للمستقبل، قارناً الأحداث المعاصرة، متوقعاً ماذا سوف يحدث؟ لقد سعدت حقيقة بصداقته حينما عرفته عن قرب وسافرت معه للعمرة، وكنت أزوره في منزله وأطرب لقصصه التي يرويها مع شيء من الفكاهة، فهو -رحمه الله- كما قلت مغناطيس إذا تحدث، ويكفي أن الله -عز وجل- رزقه السحر الحلال، وهو سحر الأخلاق الراقية، وكما أن الله قسّم الأرزاق على عباده فكذلك منح بعضهم الأخلاق الكريمة، والبعض لم ينل هذا النصيب، وفي صفحة اليوم نطرح أحاديث بعض أصدقائه، وابنه مقرن، وأخوه إبراهيم، وكذلك تلاميذه، مجسدين صورة وشخصية الشيخ عبدالرحمن آل الشيخ -أبو حمد-. أسرة علمية وأسرة آل الشيخ من الأسر العلمية التي مقرها مدينة ثادق، والشيخ عبدالرحمن من هذه الأسرة الكريمة التي أنجبت عدة علماء، فوالده الشيخ حمد بن محمد آل الشيخ من طلبة العلم، كان مرشد الجيش العربي السعودي الذي كلف بالذهاب إلى فلسطين عام 1367ه، وكان هو الذي يحل مشكلاته، ثم كان مسؤولاً عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الحدود الشمالية، وكان المرجع الديني في المنطقة، وجَدّ عبدالرحمن هو محمد بن حمد آل الشيخ كان أول من تولى إمامة الحرم المكي الشريف، وهو من العلماء، بعد دخول الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- مكةالمكرمة وضمها إلى حكمه كما ذكر ذلك الشيخ صالح بن حميد في كتابه (تاريخ أمة في سير أمة)، كذلك الشيخ عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ يعد من طلبة العلم، وتولى إمامة الحرم المكي بعد والده الشيخ محمد، الذي هو عم عبدالرحمن، وقد ترجم له ابن حميد كذلك في كتابه المذكور آنفاً، ولا ننسى الشيخ العالم حمد العوسجي الذي كتبت عنه قبل سنتين فهو الجد الثاني للشيخ عبدالرحمن، وكان من علماء نجد الذين تولوا القضاء في عدة بلدان وترجمته متناثرة في كتب التراجم النجدية، وقد جمع أخونا وصديقنا الباحث المحقق إبراهيم بن حمد آل الشيخ ترجمة له مع فتواه. ذو حكمة وُلد عبدالرحمن بن حمد بن محمد بن حمد آل الشيخ العوسجي عام 1384ه، ودرس الابتدائية ثم المرحلة المتوسطة بالمعهد العلمي بالرياض، أمّا المرحلة الثانوية فكانت في الثانوية المطورة، ثم انضم إلى جامعة الإمام كلية أصول الدين وتخرج عام 1409ه، وأصبح مُعلماً للتربية الإسلامية بثانوية الجوهري بمدينة الرياض، ثم مرشداً طلابياً فيما بعد حتى تقاعد عن العمل متفرغاً للدعوة إلى الله عز وجل في الداخل، وطلب العلم على الشيخ عبدالله بن حسن بن قعود، وكانت الدروس يعقدها ابن قعود في المسجد الذي بجوار منزله، وكانت في الحديث والتوحيد والتفسير، لازم الشيخ عبدالرحمن شيخنا وشيخه عبدالله بن قعود مدة طويلة منذ 1406ه حتى عام 1416ه، كما أخبرني بذلك هو، واستفاد منه، وحصل من ملازمة دروسه معرفة بالحديث والفقه والعقيدة، فعبدالرحمن من طلبة العلم الدعاة الذين رزقوا مع العلم والدعوة قبول الناس له، وكان وافر العقل، ذو حكمة في دعوته وفي أسلوبه، يستمع إلى محدثه ويناقش بهدوء وسكينة، ولا يفرض رأيه على أحد، كان من أريحي النفس، يفيد الناس من علمه ويستفيد من أي معلومة ويفرح بها ويشكر ويثني على قائلها. مبتسم وبشوش وقال صديقه خالد خميس سعيد عن صداقته مع عبدالرحمن آل الشيخ -رحمه الله- في معنى كلامه: إنني عرفته قبل عشرين عاماً، تميز بأنه دائماً مبتسم بشوش، لم أره يوماً من الأيام عبوساً متجهماً، كان لا يعتب على أحد، بل يواجه الكل بالكلام الطيب العذب، وكانت أحاديثه وكلامه مفيدة حينما نجتمع معه، فلا نخرج من تلك الجلسات إلاّ بفوائد مما يقوله في هذه المجالس، وكان إذا نوقش في أي مسألة أو رأي طرحه لا يتعصب لرأيه ويجادل بل يطرح رأيه للجميع مستمعاً ومنصتاً للرأي الآخر، وإذا غاب عنا لمرض فلا يمكن أن يوجه كلاماً قاسياً لمن لم يسأل عنه إبان مرضه، يعذر كل أحد، ويحسن الظن فيهم، وكان من أخلاقه المرح وإدخال السرور لكل من قابله أو جلس معه، فهو حسن التعامل وكان فقده فاجعة كبرى، وقد ظهرت الكثير من سجاياه من تلاميذه الذين درسهم في ثانوية الجوهري بعد وفاته؛ لأنه كان يغدق عليهم من أخلاقه ونصحه وإرشاده وكان يحتويهم، والله أنه يغبط على هذه السيرة الحسنة ولعلها عاجل بشرى له في هذه الدنيا، رحمه الله وغفر له. سماحة نفس وتحدث فهد الشايقي -من تلاميذ عبدالرحمن آل الشيخ في ثانوية الجوهري- قائلاً: إن أستاذه عبدالرحمن اتصف بصفات منها سماحة النفس والبشاشة وطلاقة الوجه، وكان حريصاً علينا بالنصح لنا، وكان مما سمعنا يعتني بالتلاميذ الذين حالتهم المادية صعبة، فيدعمهم، وقد كان يتكفل مادياً برحلات الطلاب خارج المدرسة، وفي هذه الرحلات يكون الشيخ عبدالرحمن كواحد منّا لا يتميز بأي شيء، فكان لا يأمر أحداً من طلابه بخدمته، بل هو يخدم نفسه، وقد تميز أنه كان لا يتذمر من أي شيء أو شاكياً حتى إذا ألم به مرض لا يشتكي، بل يخبر به فقط، فكان لطيف الكلام سمح المحيا وفي قمة التواضع، وكان السند لي في المشورة والرأي، وقف معي في أزمات مرت علي منها عندما توفي والدي -رحمه الله- حيث شهد دفن والدي، وتفاجأت لما انتهيت من دفن الوالد أنه كان ينتظرني ممسكاً بحذائي وهنا تجسيد التواضع في هذا الموقف، كان في جلساته لنا يفيدنا من أحاديثه التي تجمع بين الطرفة والفائدة والعلم الشرعي، ومنذ عام 1412ه وحتى قبل وفاته لم أسمع منه كلمة نابية أو أنه أساء إلى أحد، رجل لطيف يرحب ويحتفي بكل من ألتقي به، ومما تميز به حسن الاستماع إلى المتحدث إليه حتى إذا انتهى المتحدث من كلامه علّق على كلامه بهدوء وابتسامه، كان مضيافاً، يدعونا إلى منزله لما كنا طلاباً عنده، فيعد لنا مائدة كبيرة، فهو من بيت كريم وأهل كرام -رحمه الله-. وصولاً للرحم وقال إبراهيم البحيري عن عبدالرحمن آل الشيخ -رحمه الله-: زاملته منذ عام 1405ه، هو أخي الذي لم تلده أمي، كنا نجتمع مع كوكبة من الزملاء وتشرفت بمعرفتهم ومن ضمنهم عبدالرحمن الذي كان سلس التعامل، تلقائياً، أفعاله كبيرة، سعدت بالعلاقة معه، كان نعم المستشار الأمين، فإذا حدث لي أمر من الأمور لجأت إليه مستشيراً، وكذلك أخوه إبراهيم أستشيره، وأجد منهما الرأي السديد، وكان عبدالرحمن مرحاً في كلامه، وكان دائم البشاشة، لم أشاهده مكتئباً أو ضائق الصدر، أو قلق النفس، لكنه كان يتأثر حينما يكون هناك درس في السيرة النبوية، نشاهده يخفض رأسه من الحديث الذي يسمعه، متأثراً بهذا الحديث، وكان مبادراً لكل عمل خيري، وإذا اقترحت رحلة خارج الرياض كان من المبادرين لهذا الاقتراح والداعمين مادياً، وقد حججت معه مرتين لم أرَ منه إلاّ كل خير وإحسان، وكان وصولاً للرحم، باراً بوالديه وإخوانه وأخواته، كانت له أخت مريضة يزورها في الأسبوع مرتين، ولهم أخت كبرى كانوا يزورونها مع إخوانه بعد صلاة كل جمعة، كان يدخل السرور على أولاد أخته بمرحه وفكاهته، كان متبرعاً بالرقية الشرعية بدون مقابل، يقرأ في زيت زيتون ويوزعه مجاناً، ويرشد المريض بالمواضع التي يدهن بها جسده من هذا الزيت وينصح بأن يقرأ على نفسه ويكرر القراءة. صاحب بذل وتحدث د. حمد التويجري عن صحبته وصداقته ورفقته مع عبدالرحمن آل الشيخ -رحمه الله- قائلاً: إن هذه الصداقة قاربت نصف قرن حيث عرفته في الصف السادس الابتدائي حتى وفاته، وقد صحبته في الحضر والسفر وفي دروس المشايخ وفي دروس خاصة، وكذلك في بعض المناسبات، والحروف والكلمات تعجز في وصف هذه الشخصية، فالرجل صاحب بذل لا يدخر وسعاً أن يقدم لإخوانه وأحبابه وأصدقائه في سبيل الدعوة إلى الله وفي سبيل طلب العلم، وكان صاحب عبادة، لا يترك الحج، حتى أنه أحياناً يكون في المستشفى ويخرج ويذهب مع أنني أنصحه ألاّ يحج لمرضه ومع ذلك يصر ويحج، وأيضاً له عناية خاصة بذوي القربى، فكان يحرص أن يقيم لهم المناسبات، ومما تميز به أنه يتداخل مع كل أحد سواء صغير أو كبير متعلم أو عامي وهذا راجح إلى سلاسة تعامله، لكن مما أجمع عليه كل من عرفه أنه لا يحمل في قلبه على أحد أبداً، وهذه حقيقة لا نستطيعها ولا يستطيعها الكثير من الناس، فسلامة القلب تتقطع دونها السبل، وحديث عبدالله بن عمرو بن العاص مع الرجل الأنصاري الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: يدخل عليكم رجل من أهل الجنة قالها الرسول ثلاث مرات، فتبعه عبدالله وبات عنده ثلاث ليال ولم يرَ عبدالله من هذا الأنصاري عملاً يذكر، فسأله عبدالله ماذا تعمل؟ فقال: إنني إذا أويت إلى فراشي لا أحمل حقداً وغلاً لأحد من المسلمين، وهذا الشيء لمسناه يقيناً في عبدالرحمن -رحمه الله- مهما حصل من الآخرين من الخطأ فنفسه سمحة جداً، سريع العبرة، وكم أخطأنا عليه مراراً وتكراراً لكن لا يحمل في قلبه. اهتمامات الأبناء وقال ابنه مقرن بن عبدالرحمن آل الشيخ: إن والده يحرص على توطيد العلاقة بينه وبين أولاده منذ نعومة أظفارنا، فهو يعرف اهتمام كل فرد من أفراد العائلة، وحتى بعدما كبرنا يتابع هذا الشيء، فكان يحرص أن يقرأ عن اهتمامات أولاده، كان بمثابة الأخ والصديق والمرشد لنا، يعطينا الحرية في التعبير عمّا في أنفسنا، وكان الحديث معه سهل جداً، ومن صور حرصه على أولاده أنه هو الذي ينقل أولاده صباحاً للمدرسة ويرجعنا مرة أخرى إلى المنزل، وفي أثناء الرجوع إلى المنزل يستغل هذا الوقت ليستمع ما يتحدث به أولاده في المدرسة، فكان ينصت إنصاتاً جيداً لنا مهما كان ذا أهمية أو ليس ذا أهمية، وكما قلت إن الوالد عنده أولوية في توطيد العلاقة مع أولاده وأسرته، ومن صور هذا الشيء أنه يهتم أشد الاهتمام أن يكون جميع أفراد الأسرة على مائدة واحدة، خاصةً وجبة الغداء، كنا نتأخر في المجيء إلى المنزل بعد انتهاء الدوام، فكان يؤخر وجبة الغداء حتى نأتي ونجتمع كلنا، كان الوالد مدرساً ثم مرشداً طلابياً، فكان محبوباً من زملائه في المدرسة، ومن طلابه اقترب أكثر من مشكلات الطلاب حتى أنه إذا استطاع حلها خارج المدرسة بادر، وكل الذي وفدوا إلينا في العزاء سواء تلاميذ أو زملاء يجمعون على سلامة قلبه، وكان بعض الطلاب يقولون لي ما أوفر حظك لأن الشيخ عبد الرحمن والدك؛ لأنه درسهم في ثانوية الجوهري، بل وحتى العمالة الذين كانوا يعرفونه ويأتون إلى البيت للسباكة أو الكهرباء بكى بعضهم عندما علم بوفاته -رحمه الله-. حياة بسيطة وإبراهيم بن حمد آل الشيخ -شقيق عبدالرحمن-، وهما روحان في جسد واحد، يقول: أخي عبدالرحمن عاش حياة البساطة في تعامله ولم أره يناكف أحداً من الناس، سمح المحيا، صافي السريرة، نقي القلب، وصاحب تواضع جم، واصل للرحم، كل من عرفه سواء من أسرتي أو عارفيه إلاّ شهد له بنقاء السريرة، جعل النفوس تميل إليه حباً واحتراماً، كان عفيف اللسان كثير الصدقة، محتسباً للدعوة في سبيل الله، جواداً كريماً، يفرح بمن يزوره، شيق الحديث لا تمل من مجالسته، تلذ له الأسماع مع الصغير والكبير سريع البديهة، كان يقرأ على المرضى في المستشفيات لكل من يتصل عليه ولا يأخذ على ذلك أجر، وكل من أهدى إليه يذهب ويشتري له هدية توازي ما أهدي له أو تزيد، فقراءته مؤثرة وفي الحديث "أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة"، فهو رجل صالح وتقي، وكان يذهب إلى المستشفيات ويقرأ على من أصيب بالسرطان، وكان يخصص يومي الاثنين والخميس للقراءة على المرضى، حيث يكون صائماً، وكان مشهوراً بتعبير الرؤى، سافر للدعوة إلى الله عن طريق الندوة العالمية، ولقد ابتلي بالأمراض منذ سنين مبكرة منها السكر والضغط والكولسترول، وكان محتسباً ذلك على الله، ومن كانت هذه صفاته استعذب الناس ذكره، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته -انتهى كلام إبراهيم-. وتوفي عبدالرحمن آل الشيخ يوم الثلاثاء 15 /11 /1443ه الموافق 14 /6 /2022م وصلى عليه صلاة الجنازة في جامع البابطين ودفن في مقبرة الشمال، رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى. أشكر إبراهيم بن حمد آل الشيخ الذي كان له الفضل في نشر هذا المقال، بعد أن أوصلني إلى أصدقاء الشيخ عبدالرحمن، والشكر موصول إلى مقرن بن عبدالرحمن آل الشيخ الذي باح بمشاعره الرقيقة نحو والده، فله مني وافر الشكر ولم يمت من خلف ذرية بررة. عبدالرحمن بن حمد آل الشيخ -رحمه الله- آل الشيخ كان ناصحاً ومرشداً لطلابه في المدرسة وخارجها إبراهيم آل الشيخ شقيق عبدالرحمن ورفيق عمره مقرن بن عبدالرحمن آل الشيخ ثانوية الجوهري التي عمل بها آل الشيخ مُعلماً