أخبرني الأستاذ الراوية عبدالمحسن العلي - سكرتير رئيس تحرير مجلة العرب الأستاذ حمد الجاسر - بوفاة ابن عمه الشيخ المُعلم والأستاذ محمد بن علي العلي - رحمه الله - ومن ذلك الخبر أعدت شريط الذكريات والأيام مع أستاذنا محمد العلي، الذي درسنا في معهد الرياض العلمي مادة الحديث، ولقد رجعت إلى الماضي، وأذكر ذاك اليوم الذي دخل علينا رجل في الخمسين من عمره، وقد شابت أكثر لحيته، وكنا في السنة النهائية من الثانوي، كانت شخصية هادئة ذات طابع سهل في التعامل، ليس بفظ ولا غليظ، ارتاح الطلاب إلى تعامله معهم، فهو كالوالد لهم، لم يكن يتعامل مع الطلاب بفوقية ولا علو، ولم يضع أي حواجز وخنادق بينه وبينهم، بل كان أحيانًا عندما ينتهي الشرح من الدرس يجلس بجانب التلميذ الذي يسأل حتى لو كان السؤال خارج الدرس، وكنت من هؤلاء التلاميذ الذين يسألونه في الدرس وخارج الدرس، فيجيب عن كل الأسئلة بأريحية وسرور، بل كان - رحمه الله - تلقائيًا في كلامه وأحاديثه مع الطلاب، لذلك كان شرحه للدرس غير معقد ومصطنع، ولقد ارتحت إليه كثيرًا جدًا، مع أنه لم يدرسنا إلاّ عامًا واحدًا، فكانت شخصيته الطيبة وسلامة قلبه وسعة صدره، قد نُقشت في الذاكرة، ومع أنني تخرجت في المعهد إلاّ أنني تواصلت معه وزرته في منزله أكثر من مرة؛ حيث عرفته أكثر وأعمق، فلقد انطلق في الحديث عن ذكرياته في مكةوالطائف. ولعلي في هذه الصفحة أقدم شيئًا عن سيرته ومراحل حياته رحمه الله تعالى.كتاتيب الغاط وُلد الشيخ محمد بن علي العلي عام 1347ه - كما يقول في سيرته التي كتبها -: ولدت في السنة التي يسمونها «السبلة» - أي معركة السبلة - في مدينة الغاط، وانضم إلى الكتاتيب في الغاط، وأول ما تعلم عند المُعلم محمد بن حمد الماجد، ثم انتقل إلى مدرسة عبدالمحسن المنيع وسليمان بن إسماعيل، ودرس على عمه الشيخ عبدالله بن علي، وكان عمه هذا - كما يذكر الأستاذ عبدالمحسن العلي - من طلاب العلم، كما أكد لي ذلك الأستاذ عبدالله الماجد - صديق الشيخ والشيخ محمد خاله-، ودرس في مدرسة محمد بن رشيد، وقد أكمل ختم القرآن، وأتقن بعد ذلك القراءة والكتابة، وكل ذلك ما بين 1355ه حتى عام 1368ه تقريبًا، وتخلل هذه المرحلة من شبابه وصباه أن عمل في الزراعة التي هي القوت الأساس لأهالي القرى حيث التمر والقمح - العيش-. وفي عام 1368ه قرر الشيخ محمد العلي مواصلة العلم والتحصيل وتطوير نفسه، فاتجه إلى العاصمة الرياض. والتحق الشيخ محمد العلي بحلقة الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم آل الشيخ دارسًا اللغة، وكان الشيخ يدرس الآجرومية، وقد أحب الشيخ محمد العلي اللغة العربية، ومن تلك الدراسة كانت بداية السلم لدراسة وفهم وتذوق اللغة العربية، وكان مجيدًا في اللغة، ويسأله غالبًا أصدقاؤه عن الإعراب، وقد درس على الشيخ علي بن داود في الرياض في مسجده الذي هو الآن غرب شارع السويلم، قرأ عليه في التوحيد والفقه، ويقول الشيخ محمد في سيرته: إنه حفظ القرآن في هذه المدة التي درس فيها في الرياض، وبقي في الرياض دارسًا ومتعلمًا في حلقات المشايخ من عام 1368ه حتى عام 1374ه، وفي هذا التاريخ توجه إلى الطائف؛ حيث انضم إلى دار التوحيد طالبًا، ثم كلية الشريعة وتخرج عام 1383ه. موجّه ناصح وعُيِّن الشيخ محمد العلي - رحمه الله - بعدها أستاذًا ومعلمًا في مكة في التعليم العام، وقد أحب الشيخ محمد وظيفة التعليم، فلم ينتقل إلى غيرها، بل واصل في مهنة التعليم ناصحًا ومرشدًا وموجهًا ومربيًا وباذلًا كل علمه وجهده وطاقته في التعليم، وبالدرجة الأولى غرس القيم والأخلاق في التلاميذ، ولقد كان ينصحنا - رحمه الله - بنصائح ليست طويلة مملة، بل هي جمل قصيرة جامعة لبعض معاني الخلق القويم والسلوك الحسن، فهو من الأساتذة الأوائل المخلصين الصادقين الأمناء في تدريسهم، وكان يستعمل الحكمة في نصحه للتلاميذ ولغيرهم، ويشغل كل مناسبة في أثناء الشرح بأن يربط الموضوع بالواقع الذي يعيشه التلاميذ، كانت كلمات يسيرة وجملًا مختصرة بعبارات موجزة، لكنها خرجت من قلبه على الشباب والنشء، فالشيخ محمد العلي لم يجعل مهنة التعليم وظيفة فقط يؤدي الواجب الذي عليه من الدرس، بل هي رسالة من أعظم الرسائل وأشرف المهن؛ لأن بها مصنع الرجال، فكل طبقات المجتمع تتخرج وتتربى على يد المعلم، فالشيخ محمد هذه هي رسالته في التعليم: التربية على الأخلاق وترسيخها في التلاميذ، وهو - رحمه الله - يعلم علم اليقين أن الأخلاق كالنبات؛ كما قال الإمام الشافعي: هي الأخلاق تنبت كالنبات إذا سقيت بماء المكرمات مواكبة التطوير والتربية والتعليم لا ينفكان عن المعلم المتفوق المخلص، وكان الشيخ محمد العلي - رحمه الله - من هؤلاء المعلمين كما عرفته، ولقد درَّس أجيالًا تتلوها أجيال من التلاميذ والطلاب في مكةوالرياض في التعليم العام بعدما قطع التعليم العام مرحلة في انتشار المدارس وتطوير المناهج، وواكب هذا التطوير والتحديث وعاصره بوزارة المعارف، فهو عاصر وعايش ومارس هذا التغيير في أيام وزمان الوزير آنذاك الشيخ حسن آل الشيخ - رحمه الله-. وتنقل الشيخ محمد العلي في مدارس الرياض من عام 1385ه، ثم درّس في المعاهد العلمية بعدما ترك التعليم العام، ومناهج المعاهد العلمية تختلف اختلافًا جذريًا عن التعليم العام من حيث مناهج اللغة العربية والفقه والعقيدة، وكان يدرسنا عمدة الأحكام الذي كان مقررًا في المعهد العلمي، وتقاعد من التدريس عام 1413ه، والجدير بالذكر والمهم أن الشيخ محمد العلي نال شهادة الماجستير في الفقه المقارن من جامعة الأزهر عام 1394ه، وكان لديه طموح في أن ينال شهادة الدكتوراه، وقد أعد البحث، لكن في هذه المرحلة قد استقال من التدريس منشغلًا بأعمال تجارية - كما يذكر ابنه علي-، وليته نالها لكان من أساتذة الجامعات بمعلوماته التي تؤهله للتدريس الجامعي. غرّزت السيارة وقال الأستاذ علي - ابن الشيخ محمد العلي -: إن الوالد - نقلًا عن بعض أصدقائه-: والدك كان قد نصح إخواني بحفظ القرآن وهما اثنان وأخت لهما، وكانت هذه الكلمة لها وقع في قلب إخواني وأختي، وحفظوا القرآن من تلك الكلمة الصادقة من الوالد، ويروي علي أيضًا: أن الوالد كان إذا سافر إلى الطائف من الرياض كان يقرأ القرآن وهو في السيارة من الصباح الباكر، وكان لا يسرع ليبدأ من الفاتحة، فلا يصل الطائف إلاّ وقد ختم القرآن الكريم، ويذكر كذلك أن والده مكث مرة عشر سنوات لا يفتح المصحف، حيث إنه يقرأ القرآن من حفظه، وهذا إتقان قوي، ومن جانب آخر فإن الشيخ محمد العلي كان قد أتم حفظ القرآن الكريم، وكان الملك سعود بن عبدالعزيز - رحمه الله - يمنح مبلغ ألفي ريال، ومنح الشيخ محمد ذلك المبلغ، الذي يُعد ضخمًا له قدره في الزمن الماضي. ويذكر صديقه ورفيق دربه الأستاذ عبدالعزيز بن شايع، أن الشيخ محمد اشترى بهذا المبلغ سيارة ويلز جيب - موديل 48 - كانت لهما في هذه السيارة أحلى الذكريات وأجمل الأيام، ويقول: إننا سافرنا من الطائف إلى الرياض، و»غرّزت» السيارة في «نفوذ السر»، وحاولنا العبور فلم نستطع، واكتشف الشيخ بعدها أن ماكينة السيارة قد خربت، فذهب إلى الدوادمي لجلب قطع الغيار، ومكثنا في السيارة يومًا كاملًا، ورجع ومعه قطع الغيار، ولكن نحن لا نتقن «الميكانيكا»، وسخر الله لنا شخصًا اسمه «المزيني» رآنا في الطريق وقام بإصلاح السيارة وما زلت أدعو له. كان الشيخ محمد العلي - رحمه الله - يختم القرآن كل ثلاثة أيام تقريبًا، فكان القرآن على لسانه دائمًا يُقرأ في البيت والمنزل وفي المسجد، حتى إن أحد جماعة المسجد سمعه يوم الخميس بعد العصر، وكان يقرأ في سورة الكهف، وسمعه من الغد يوم الجمعة يقرأ في سورة البقرة، فقال له هذا الشخص: «يا شيخ محمد أنت تختار من السور وتقرأ»، فقال الشيخ محمد: «لا بل أقرأ مرتبًا السور»، فكان خلال ليلة كاملة - ليلة الجمعة - قد قرأ 15 جزءًا تقريبًا. صلة رحم والشيخ محمد العلي - رحمه الله - كما سمعت من ابنه علي ومن ابن أخته الأستاذ عبدالله الماجد ومن ابن أخيه الأخ الأستاذ عبدالعزيز العلي كان وصولًا للرحم لذوي القربى خصوصًا، ويحدثني عبدالعزيز العلي قائلًا: إنني قلت له: «هؤلاء الذين تزورهم هم أصغر منك سنًا، الواجب هم الذين يزورونك»، فقال لي العم: «لا نريد أن نكلف أحدًا، ما دمت أستطيع فسوف أزورهم»، وهذا من حبه لصلة الرحم، وهو بذلك ليس بالواصل المكافئ الذي ينتظر رد الزيارة، بل يزور لأجل صلة الرحم وما فيها من الثواب والأجر، فكان يزور كل صغير وكبير، ومن وفائه أنه يزور أصدقاء له خارج الرياض في الطائف، يزورهم من باب الأخوة في الله فقط، ويخبرني الأستاذ عبدالعزيز العلي أن عمه كان يزور المرضى ويحرص على زيارتهم، وكان يذهب معي لزيارتهم حتى إن لم يعرفهم ابتغاء الأجر، وأذكر أنه كان يزور أحد أصدقائه في مستشفى الملك فيصل التخصصي، وكان مريضًا طيلة 17 سنة، فكان يزوره كل أسبوع ويرقيه بالرقية الشرعية. ويخبرني الأستاذ علي العلي الابن الأكبر للشيخ محمد، أن والده زار أحد المرضى مع صديقه عبدالله الماجد، فقال الشيخ لهذا المريض: «لماذا لا تسافر للعلاج بالخارج أحسن»، فقال له المريض: «أين الفلوس يا أبا علي»، فلما رجع هو إلى المنزل كتب الوالد شيكًا بمبلغ ضخم يقدر ب200.000 ريال، وأغلقه في ظرف وسلمه لهذا الصديق، وقال له: «ادفعه لصاحبك المريض»، فقال ابن ماجد: «ماذا في هذا الظرف؟»، قال الشيخ محمد العلي: «مبلغ كذا»، فمزق صديقه الظرف والشيك وقال: «هذا المريض ليس بحاجة إلى المال، فهو غني»، فكان - رحمه الله - عطوفًا ذا قلب رحيم، يتصدق على المساكين والفقراء في الغاط - خصوصًا-. مروءة وشهامة ويتحدث الأستاذ علي عن والده: «إن أحد الأقرباء اتصل على الوالد، والوالد خاله وقال: إنني اتصلت على والدك وقلت إنه وقع لي حادث وأخشى من والدي، فجاء الشيخ محمد إلى موقع الحادث، وأعطى صاحب السيارة الذي وقع عليه مبلغ من المال لأجل إصلاح سيارته، وقلت في نفسي السيارة الآن لا تصلح قد انعدمت، فذهبت أنا والشيخ إلى معارض السيارات واشترى لي سيارة مثل سيارتي وكأن شيئًا لم يكن»، وهذه من أعلى مقامات المروءة والشهامة ومن صلة ذوي الرحم، فقد حسم المشكلة من ماله ولم يخبر أحدًا، وهذه القصة لم يعلم بها أبناء الشيخ إلاّ في مرضه، والشيخ محمد العلي - رحمه الله - من الذين يخفون أعمالهم ويفعلون في السر، ويقول الأستاذ علي ابن الشيخ محمد: «إن الوالد كان في الطائف يدرس، وكانت هناك أسرة يعرفهم تمام المعرفة، كان يرعاهم ويحرص عليهم بالنصح والرعاية، حتى إنه كان يوصلهم إلى المدرسة بنفسه، ويتفقد ما يحتاجونه وهم ليسوا أقرباء له، ومن نتائج هذا الحرص والرعاية والاهتمام أن تخرّج أبناء هذه الأسرة في كلية الشريعة وتوظفوا، ويقول أحدهم: لولا الله ثم عناية والدكم لكنا في ضياع، وهذه القصة لم نعلم بها إلاّ في عزاء الوالد». سمعها مهند - ابن الشيخ محمد العلي - من هذا الشخص الذي رعاه هو وإخوانه وكان يبكي وهو يتحدث عنه. فعل الخير ومما يذكر الأستاذ علي من ذكرياته عن والده وحبه لفعل الخير والإحسان، أنه كان أحد الأقارب - والشيخ خاله - يدرس الطب في جامعة الملك سعود، وكان بحاجة إلى معدات طبية، وكان ذلك قبل عدة عقود، فلما علم بذلك واستفسر من الطالب عن ماهية هذه المعدات، اشتراها له من مصر، وجلبها له في الرياض، وكان أخو هذا الطبيب يذهب به الشيخ محمد العلي إلى المدرسة ويرجعه إلى المنزل ويراجع معه دروسه، وعن بذل الإحسان للناس عند الشيخ محمد ما قاله لي الأستاذ عبدالعزيز العلي عن عمه الشيخ محمد أنه كان يشفع لمن طلب منه الشفاعة عند المسؤولين ولا يتردد. والشيخ محمد العلي - رحمه الله - كان من الرجال الصالحين الأخيار؛ فلقد روى مؤذن الجامع الذي قرب منزل الشيخ أنه كان يقوم بالذهاب إلى المسجد لأجل أذان صلاة الفجر، فيجد الشيخ في الصف الأول قبل الصلاة - رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى - وقد توفي بتاريخ 7/ 2/ 1441ه عن عمر الخامسة والتسعين. أشكر الأستاذ علي بن محمد العلي على تعاونه معي بتزويدي بسيرة والده وعن مواقفه وقصصه في مجال الإحسان والمعروف، وكذلك أشكر الأستاذ عبدالعزيز العلي على ذكر بعض مآثر عمه الشيخ محمد، وهذا من برهم بالشيخ الوالد الذي كان أبًا لجميع أسرته وجماعته. محمد بن علي العلي في شبابه الشيخ محمد العلي كان مُعلمًا ذا تأثير إيجابي في طلابه الباب الأول لبحث فقهي بخط الشيخ محمد العلي شهادة إتمام الدراسة الثانوية من دار التوحيد شهادة الماجستير من جامعة الأزهر لمحمد العلي صلاح الزامل