بعد قراءتها لرواية "بورتريه سيدة" للكاتب الإنجليزي هنري جيمس كتبت قارئة غاضبة: "إنه إهدار حقيقي للوقت أن تقرأ رواية من أكثر من ست مئة صفحة عن سيدة غبية يصفها الكاتب أنها شعلة ذكاء ومستقلة، فيما منذ بداية الرواية إلى نهايتها لم تسعَ هذه السيدة إلا لتدمير حياتها والتخبط في متاهة مغلقة". تنتمي قارئتنا للقرن الحالي، ووفق صورتها على موقع "غودريدز" فهي في العشرينات من عمرها، وهذا يعني أنها تنتمي لحقبة مختلفة تماماً عن حقبة الكاتب الذي عاش أيام انتعاش الأدب الواقعي، وما كتبه يعتبر واقع نساء ورجال حاولوا أن يتملّصوا من شباك التقاليد والأعراف ولكن الأمر كان عصياً عليهم. الرواية التي صدرت باللغة العربية عن دار الرافدين (بغداد) مترجمة من طرف د. أنوار يوسف في جزئين، وكل جزء يقارب الأربع مئة صفحة، تأخذنا في الحقيقة في رحلة "زمنية - مكانية" جميلة إلى ريف بريطانيا، حيث تحل آنسة أمريكية ضيفة على المكان بعد حصولها على ميراث كبير حوّلها بين ليلة وضحاها إلى سيدة ثرية. يجب أن نتذكّر هنا أن الكاتب هنري جيمس ولد في 1843، وتوفي في 1916، وأن أدبه انعكاس للحياة خلال القرن التاسع عشر، ولعلّ هذه الفجوة الزّمنية هي التي فاتت قارئات من مختلف العالم فعبّرن عن نقمتهن على إيزابيل بطلة جيمس في "بورتريه سيدة"، وهي نفسها النّقمة على "آنّا كارنينا" للكاتب الروسي ليو توليستوي. وإذا ما أردنا بالمختصر أن نفهم تطور الأفكار والتغيرات الطارئة على المجتمع الإنجليزي والأوروبي أو الغربي عموما، يمكننا قراءة جاين أوستن، والأخوات برونتي، ثم بلزاك، وفلوبير، وهيغو، وزولا، قبل أن نقفز لكُتّاب القرن العشرين، أمثال همنغواي، نابوكوف، بروست، ومارسيل بانيول، وسارتر، وكامو، وسيمون دي بوفوار التي قلبت العالم رأسا على عقب بكتابها "الجنس الآخر". تقول إيزابيل آرتشر لابن عمّها رالف: "لا أريد أن ابدأ حياتي بالزواج" وهذا تعبير في غاية التمرُّد على مجتمع يرى أن مستقبل أي فتاة مرتبط بالحصول على زوج ثري وتكوين عائلة. لكنها حصلت على ثروة، وأصبح تقرير مصيرها بيدها، فماذا فعلت؟ يغمرنا جيمس بسرد نفسي عميق ومكثف بالأفكار والعواطف، يدخلنا في دوّامة الظروف القدرية التي تفاجئنا بها الحياة، فتتزوّج إيزابيل من رجل لا يشبهها، ويموت ابنها في شهره السادس، وتدخل معارك من أجل الحرية، وإنقاذ ما بقي من مودّة لزوجها، متمسكة بنذور الزواج غير القابلة للكسر. ينجح أوزموند زوج إيزابيل في كسر روحها، أو بمعنى آخر بترويضها، فتطلق زمام حياتها لتذهب بعيدا عنها، تنفصل عن عالمها الجميل رغم مجيء الفرصة إلى قدميها لتتحرّر، فتعود لسجن الزوج، كأي امرأة لا تملك ثقافتها وخبرتها في السفر. لا بأس من غضب القارئ من إيزابيل، لأن جيمس بذكائه جعله يرى الظلم ويرفضه في قرارة نفسه.